ارشيف من :نقاط على الحروف

المرافق العامة والرسمية: فوضى وذُل... الى متى؟

المرافق العامة والرسمية: فوضى وذُل... الى متى؟

ظافر رمضان

لم تعد الصورة المدرجة في هذا المقال مستهجنةً، إذ أصبحت مصداقاً لمفهوم «ذُل الخدمة العامة» الذي يتلقاه المواطن عندما يقصد مركزاً من المراكز والمؤسسات العامة لإنجاز معاملة ما يحتاجها لتيسير أموره. فعند وصولك الى مركز «تصديق الافادات المدرسية في بئر حسن» لإنجاز معاملتك كأي مواطن لبناني، كما حدث معي في اليومين الماضيين، تستطيع أن تلاحظ ـ وهذا ليس بالأمر الجديد ـ مدى سوء المعاملة التي يتلقاها المواطن إن من جهة الدولة؛ المفترض بها حرصها على خدمته دون المسّ بكرامته، أو من جهة الموظف الرسمي؛ المفترض به حرصه على أداء أمانته في عمله، القابع في مكتبة، غير ملتفت الى المعاناة التي يعانيها المواطنون في «انتظارهم خارجاً» وهم معلّقون بـ«قضبان حديدية»، تارةً من أشعة الشمس الحارقة، وطوراً من «الازدحام» الغارق في فوضى غير مبررة، مع العلم بوجود صالون انتظار داخل المبنى ولكنه مقفل، أو أساليب تنظيم عديدة يستطيع القيمون على هذا المرفق الرسمي اعتمادها.

 

المرافق العامة والرسمية: فوضى وذُل... الى متى؟

 

ولكن، ولأمانة التوصيف، لا بد من الإشارة، بطبيعة الحال، الى ان المواطنين أنفسهم هم المتسببون بهذه الفوضى، إلا انهم غير مسؤولين عنها بشكل مباشر. فهذه الصورة النمطية التي نراها دائماً "وأبداً" لدى المراكز العامة والرسمية لم تعد خافية على أحد، وكما ذكرنا سابقاً، لقد تحوّلت الى «هوية» يحملها المواطن بطريقة لا إرادية.

لقد قامت الدولة، من خلال اهمالها المتواصل والمتكرر والمتعمّد، في جميع القطاعات والمرافق العامة، لا سيّما مقاربتنا هذه، الى إخضاع المواطنين بطريقة غير مباشرة، لإعادة تشكيل المفاهيم التي يحملونها، وتحويلها الى مفاهيم أخرى تقبع بداخلها «فوضى ممنهجة ومنظمة» (بما يحمله هذا المعنى من تناقض)، فيصبح المواطن مبرمجاً بطريقة لا يستطيع التخلي عنها (أي هذه الأساليب والمفاهيم)، فضلاً عن اعتناقها والتفاعل بها الى اقصى حد في حال وجوده في أي دائرة من تلك الدوائر، بل حتى الانسياق بها في حياته الاجتماعية من دون الالتفات الى خطورتها وأثارها السلبية، جاعلين منه بذلك «شبه مواطن» عبر محطتين؛ الأولى عبر اعتماد طريقة التلقين الممنهج في حياته اليومية، والثانية من خلال إخضاعه وقولبة حياته ضمن الأُطر المرسومة له من قبل السلطة القائمة، في سبيل إخضاعه. وهذا الأمر يعيدنا الى العالم الاجتماعي «بيير بورديو» ونظرية «الهابيتوس» أولاً، و«العنف الرمزي» ثانياً، لديه.

فمن جهة أولى، وبالرغم من ان مصطلح "الهابيتوس" مصطلح غامض ومعقد، ولسنا بوارد التطرق والإسهاب في شرحه ومعانيه، إلا ان بورديو قد عرّفه بأنه "بعض الخصال المترسخة في داخل عقول البشر وأجسادهم". فيقدمه بأنه مجموعة من الاستعدادات أو الملكات الدائمة التي اكتسبها الفرد أو تطبّع عليها خلال تنشئته الاجتماعية، هذه التنشئة التي تستمر حتى الممات، فهي ليست منوطة بفترة الدراسة أو التربية من قبل الأهل. هذه الاستعدادات يستنبِطها الأفراد (المواطنون) بحسب ظروفهم الموضوعية، فتوظّف بطريقة لا شعورية، فيتم إنتاجها وزراعتها داخل المواطن، في بيئته الاجتماعية، وضمن ظروف خاصة، فيصبح مصدر أفعال الأفراد المجتمعيين المتحكّم في توجهاتهم القيمية والأخلاقية والمعيارية.

ومن جهة ثانية، حيث يقبع العنف في نوعين: عنف فيزيائي (إلحاق الضرر بالآخرين جسدياً ومادياً وعضوياً)، وعنف رمزي، لا مادي، وهو ما نحاول مقاربته هنا. فيقول "بورديو" عن العنف الرمزي بأنه "عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة". كما يعتبر بأن العنف الرمزي مرتبطٌ بالسلطة والهيمنة، بمعنى أن الدولة تمارس، عبر مجموعة الممارسات، عنفاً رمزياً ضد الأفراد والجماعات.

فالعنف الرمزي أكثر خطورة من باقي أنواع العنف، لأنه عنف عادي وبسيط، ولا يُعترف به على أنه عنف، بل تعوّد الناس عليه، وقبلوا به ما داموا خاضعين لمجموعة من القوالب المجتمعية له، بل ويعملون على تكريسها في واقع حياتهم. لذلك، وفي الظاهرة التي نتطرّق إليها، لا نستطيع ملاحظة أي رفض أو مقاومة من قبل المواطنين، بل يعتبرونه فعلاً عادياً، على الرغم من آثاره الخطيرة. لذا تستمر جحافل المواطنين بالتقاطر الى أبواب المؤسسات الرسمية والعامة، في سبيل تحصيل ما يصبون إليه، مندمجين بطريقة لا شعورية في هذه الفوضى الممنهجة، إلا ما ندر من اعتراض كلامي واستهجان فردي لما يتم تكبّده من مشقة وانتظار وذلّ، سرعان ما يتم تجاهله من قبل الأغلبية للمسارعة الى ممارسة ما تم قولبتهم عليه، "فالعنف الرمزي هو ذلك الشكل من العنف الذي يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه" كما يصفه "بورديو".

2017-09-19