ارشيف من :آراء وتحليلات

انفصال كردستان العراق ... ماذا عن الدوافع الخارجية؟

انفصال كردستان العراق ... ماذا عن الدوافع الخارجية؟

أُجري "الاستفتاء" في اقليم كردستان العراق على "الاستقلال". خطوة كان كثيرون يرون انها لن تقع، أقله في المدى المنظور، لأسباب عدة أقلها عدم الانتهاء من الحرب على تنظيم داعش بعد.
في الحقيقة، الاستفتاء تمَّ قبل ان يتم ! ذلك ان القرار بالانفصال عن العراق متخذ منذ زمن ليس بيسير ولا تنقصه سوى اجراءات شكلية. صحيح ان الحلم الكردي بالانفصال قديم، ويعود الى مئة عام مضت، لكن القرار بالانفصال الآن يعود الى دوافع خارجية اكثر منها داخلية.

انفصال كردستان العراق ... ماذا عن الدوافع الخارجية؟
مثل المشروع الانفصالي الكردي حجراً أميركياً (واسرائيلياً) يلقى في البحر الاقليمي المضطرب

 

لنراجع معاً الوقائع التالية:
-    منذ عاصفة الصحراء الاميركية في العام 1991، يعيش اقليم كردستان في شمالي العراق حالة استقلال فعلي عن السلطة المركزية في بغداد. العلاقة لا تشي ابداً بوجود تبعية من اي نوع كان للسلطة المركزية في بغداد، ولا وجود حتى للعلم العراقي في كردستان، وهذا أمر له دلالة رمزية هامة. اقليم كردستان يتمتع باستقلالية فعلية عسكرية وامنية واقتصادية وسياسية ويسعى رئيسه مسعود البارزاني لتوسيع حدود الاقليم لتشمل اجزاء من محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى.
-    هذا الواقع ترسخ بعد العام 2003 تاريخ سقوط النظام العراقي السابق، حيث أدت الهيمنة الاميركية على الواقع العراقي الى شعور ادارة اقليم كردستان بأن لا حاجة لها للتنسيق مع بغداد، وقامت بتصدير النفط العراقي من كركوك (وهي بالمناسبة لا تقع ضمن اراضي الاقليم ولو ان البارزاني ورهطه يطالبون بها) عبر ميناء جيهان التركي بتواطؤ تركي رسمي واضح وفجّ (رفض اردوغان كل الاحتجاجات العراقية على تهريب نفط العراق عبر ميناء جيهان)، وكانت العائدات المالية لهذا النفط تذهب الى خزينة حكومة الاقليم، ما منحها استقلالية اضافية ويداً عليا في التفاوض مع الحكومة المركزية.
-     بعد احتلال تنظيم داعش لمدينة الموصل والعديد من المحافظات العراقية عام 2014، استغلت ادارة كردستان تراجع الجيش العراقي، فاستولت على مخازن أسلحته الثقيلة في شمالي العراق والواقعة خارج الاقليم، ثم تقدمت بدعم اميركي لوجستي وبري لتحتل مناطق عدة في ديالى وصلاح الدين ونينوى لتضع اليد على الاراضي التي كان البارزاني يطالب بضمها الى الاقليم، بذريعة وجود مجموعات سكانية كردية فيها، وهي على اي حال مناطق مختلطة بين العرب والاكراد والتركمان.
-    على رغم احتجاجات الحكومة العراقية، ظل الاميركيون والفرنسيون وبقية الحلف الغربي، ومعه دول عربية، يقيمون علاقات تجارية وأمنية وسياسية ودبلوماسية مع الاقليم، من دون المرور بالحكومة العراقية. ساهم ذلك بالطبع بتعزيز حالة الانفصال القائمة في شمالي العراق. وكان لتركيا نصيب كبير من ذلك بسبب حسابات ضيقة تتعلق بالعلاقة المتدهورة مع بغداد ولحسابات تجارية كبيرة تعود لعائدات تهريب النفط العراقي عبر ميناء جيهان والاستثمارات التركية في الاقليم والتي تقدر قيمتها باكثر من 40 مليار دولار، بحسب بعض الارقام.
-    وجد البارزاني في انحسار وجود تنظيم داعش واستعادة الجيش العراقي، بدعم من بقية القوات المسلحة والحشد الشعبي، قوتَه وسيطرته على الموصل، نهاية لفترة "الكبوة"  العراقية التي سادت في ظل توسع داعش. وهو أراد رفع سقف مطالبه في وجه الحكومة المركزية تغطية لمشاكل داخلية: تمديد غير قانوني مستمر لفترة رئاسته على الاقليم، تفشي الفساد والمحسوبية في الاقليم، تزايد المعارضة الحزبية والحقوقية لنمط سلطته "الأبوي" (تتحكم عائلة البارزاني بالكثير من مفاصل الحكم في الاقليم)، تفاقم الوضع المعيشي والذي يترجم بانقطاع رواتب الموظفين، برغم استمرار تجارة تهريب النفط وحصول حكومة الاقليم على نصيب من الموازنة الاتحادية العراقية يصل الى 17 بالمئة منها، كما تفيد المصادر الرسمية.
-    انحسار نفوذ داعش، يعيد الصراعَ الى المربع الاول: المنازلة الباردة احيانا، والساخنة احيانا اخرى بين الاقليم والحكومة المركزية، وهنا تجد الادارة الاميركية ان لا ضمان للعلاقة مع بغداد، فهي لا تنسى ان الحكومة العراقية السابقة برئاسة نوري المالكي الذي حاربته تركيا وجهات عربية عدة، رفض عام 2011 وجوداً اميركياً دائماً على الاراضي العراقية، ما دفع القوات الاميركية للمغادرة نهاية ذلك العام. واشنطن تسعى الآن الى استثمار تدخلها العسكري في العراق لإقامة قواعد دائمة (وعبرها على نفوذ دائم) سواء على الحدود العراقية- السورية او داخل اقليم كردستان، وهذا يمر عبر تعزيز انفصال الاقليم وإشعار بغداد بالحاجة الى الدور الاميركي. وتتكامل هذه القواعد مع منشآت مماثلة اقيمت في الاراضي التي تسيطر عليها الوحدات الكردية في شمال وشرق سوريا. ويتضح من ذلك ان التدخل الاميركي العسكري المستمر منذ سنوات في هذه المناطق يهدف الى اقامة مناطق تواصل تحت السيطرة الاميركية بين الجانبين السوري والعراقي، لاستخدامها في التأثير على سوريا وايران وتركيا والعراق، وهي بلدان تضم جماعات كردية بنسب مختلفة.
-    لا بد من التذكير بأن المخاطرة الاميركية بتجاهل مصالح تركيا الحليف الاقليمي الهام، بل والإصرار على إغضابها في شأن التعامل مع الحالة الكردية في سوريا، يحمل مغزى غير تقليدي، وتتبين الآن ملامحه من خلال مشروع انفصال كردستان واقامة "فيديراليات" كردية في شمالي وشرقي سوريا. ومن المؤسف ان تركيا لم تقرأ النوايا الاميركية منذ البداية ولم تتخذ علاقات تحالفية اكثر متانة تحسباً لها.
-    بناء على ذلك، يمثل المشروع الانفصالي الكردي الذي يقوده مسعود البارزاني حجراً أميركياً (واسرائيلياً) يلقى في البحر الاقليمي المضطرب، بما يؤدي الى زرع بذور لمشاريع انفصالية لاحقة على أسس طائفية او قومية مختلفة ويلهي المنطقة بمشاغلها لفترة طويلة، تخفيفاً عن مشاغل الأميركي الذي أفلست سياساتُه في كل مكان تقريبا، وقريباً اقتصادُه.       
هل تساءلنا بعد ذلك، لماذا لم تبذل الادارة الاميركية اي ضغط جدي على حكومة البارزاني لتأجيل الاستفتاء، واكتفت بالتظاهر بأنها تسعى لهذه الغاية للحفاظ على "التحالف" في وجه داعش؟ إنها حجة لا تستقيم مع المسعى الاميركي الحثيث لوراثة داعش في مناطق عدة من سوريا والعراق وصولاً الى دير الزور، بالتضامن والتكافل مع اصحاب المشروع الانفصالي الذين – أرادوا ذلك أم لم يريدوا- يكملون من حيث بدأت داعش: "البرهنة" على ان لا امكانية للتعايش الذي استمر قرونا طويلة بين الفسيفساء الفريدة المتناثرة في هذه المنطقة.

2017-09-27