ارشيف من :آراء وتحليلات
المسألة الكردية... إلى أين؟
الاستفتاء الكردي في إقليم كردستان العراق، أدخل العراق في منعطف هو الأبرز والأخطر منذ العام 2003، ويفوق أهمية حدث إعلان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وسيطرته على أجزاء واسعة من العراق. "داعش" حالة ظرفية شاذة وعابرة كان مقدرا لها أن تنتهي يوما ما، ولم يكن لها من إمكانية ومقوّمات حياة وصمود ونهايتها كانت مسألة وقت، أما "كردستان" فإنها مشروع عمره مئة عام على الأقل.
في الواقع البارزاني شعر بوطأة الضغوط والحصار الذي يؤدي بإقليم كردستان الى الاختناق اقتصاديا بعد المضي بالاستفتاء، وهو الذي لا يملك منفذا بحريا ومطوّق بدول ترفضه من كل الجهات. ولذلك فإنه لم يتباهى بالاستفتاء ولم يستقوِ به وإنما "تواضع" ووضع لنفسه سلم النزول عن الشجرة العالية التي تسلقها الى أرض الواقع بالقول إن الاستفتاء غير الملزم يهدف الى منح تفويض لرئيس الإقليم لإجراء مفاوضات على الانفصال الذي لن يكون "انفصال أمر واقع" وإنما "انفصال بعد المفاوضات على أساس تفاهمات وترتيبات"، متعهدا بأن كردستان لن تكون مصدر تهديد لأحد .
لكن بغداد تنظر الى الاستفتاء على أنه "محاولة ليّ ذراع للحكومة المركزية وللعراق برمته شعبا وحكومة"، ووصل الأمر بها الى حد اعتبار الاستفتاء بمثابة "إعلان حرب". وتنظر أربيل الى إجراءات الحصار والتضييق ضدها على أنها عملية تأديبية ، وبمثابة" إعلان حرب". في الواقع، رائحة الحرب بدأت تفوح، طبول الحرب بدأت تقرع خصوصا وأن الورقة الكردية في العراق باتت متشابكة مع الورقة الكردية في سوريا، حيث نجح الأكراد في إقامة منطقة إدارة ذاتية وبدأوا يطرحون التفاوض على حكم فدرالي. والتي تزامنت أيضاً مع حشود تركية على الحدود الجنوبية والتلويح باستخدام القوة لمنع قيام إقليم كردي شمال سوريا، وعقد مجلس الأمن القومي التركي مؤخراً اجتماعا برئاسة الرئيس رجب طيب إردوغان لبحث اتخاذ إجراءات ملموسة بما في ذلك دعم عملية عسكرية في إدلب لمنع قيام ممر كردي من ريف حلب إلى اللاذقية والبحر المتوسط.
تلتقي أنقرة مصالحها مع المصالح الايرانية في المسألة الكردية، في الحقيقة هناك عوامل كثيرة تدفع في اتجاه تقارب وتفاهم بين أكبر قوتين إقليميتين في الشرق الأوسط إيران وتركيا: هناك السياسة الأميركية في سوريا التي تثير توجس الدولتين، إن لجهة إقامة قواعد عسكرية جوية ثابتة، أو لجهة توفير الدعم للقوات الكردية وإبرام اتفاقات عسكرية واقتصادية طويلة الأمد بين واشنطن ومناطق سيطرة الأكراد. وهناك التفاهمات الأميركية - الروسية في سوريا بمعزل عن الحرب الباردة الدائرة في العالم. ذلك أن ارتفاع منسوب التنسيق بين موسكو وواشنطن يتعارض في بعض الجوانب مع مصالح الطرفين ويحد من نفوذهما ودورهما في مستقبل سوريا. وهناك أيضاً الأزمة الخليجية مع قطر التي أتاحت لتركيا وإيران النفاذ الى الخليج وإيجاد موطئ قدم فيه والالتقاء عمليا ضد تعاظم الدور السعودي الإقليمي. أضف على ذلك شبكة المصالح الاقتصادية بين البلدين وإقامة تعاون اقتصادي إقليمي مفتوح على روسيا.
تلتقي إيران وتركيا على ربط الدولة الكردية بـ"إسرائيل". الإمام الخامنئي اعتبر الاستفتاء خيانة للمنطقة وتهديدً ا لاستقرارها ومستقبلها لأنه يمهد لـ"إسرائيل" ثانية في المنطقة... وبلغة مشابهة هاجم أردوغان الاستفتاء الذي وصفه بالخطأ الذي لا يُغتفر، وقال بأن "أحدا لا يدعم استقلال إقليم كردستان العراق سوى" إسرائيل"، ولا شرعية لاستفتاء نُظم بالتنسيق مع الموساد".
ومؤخراً حُكي كثيرا عن دور "إسرائيل" في دعم مشروع دولة كردستان العراق وحض الأكراد على المضي قدما في الاستفتاء على الاستقلال، رغم كل التحذيرات والمحاذير الدولية والإقليمية. قبل ذلك، وصف رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي دولة كردستان بأنها "إسرائيل" ثانية في المنطقة". وقال رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري إن قضية الاستفتاء "مؤامرة تقف وراءها "إسرائيل"، منتقداً "إجراء سلطات كردستان العراق للاستفتاء".
أكراد العراق لم ينفوا دور "إسرائيل"، وكان لافتا تصريح قائد قوات "البشمركة" الجنرال سيروان البرزاني، وتقديره للدعم السياسي الإسرائيلي لأربيل. وقال في حديث إلى وكالة "نوفوستي" الروسية إننا "نمر الآن بحالة معقدة للغاية، إذ نشاهد اليوم المرحلة الانتقالية في تاريخ الأكراد"، لافتاً إلى أن أربيل "لن تنسى أولئك الذين قدموا لنا دعماً جدياً، ومن بينهم" إسرائيل"، فدعمها سياسي ومعنوي، ونحن ممتنون لرئيس الوزراء الإسرائيلي على هذه المساعدة".
والسؤال هنا، هل تلتقي الدولتان طهران وأنقرة في الرد على الاستفتاء الكردي وكيفية مواجهته ووفق أي خيارات وخطط، وهل يكون بينها الخيار العسكري؟!
ثمة ضغوط سياسية واقتصادية و"نفسية" هائلة تمارسها إيران وتركيا على رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لحمله على إلغاء الاستفتاء و"كأنه لم يكن"، كشرط لقبولهما التوسط في النزاع ورعاية حوار بين بغداد وأربيل على قاعدة تأمين وضمان حقوق شمال العراق في إطار الدولة العراقية الواحدة. ولكن البارزاني ذهب بعيدا في "التحدي"، وتسلق شجرة عالية، والسلم الإيراني - التركي الذي يوضع له للنزول جاء متأخرا وليس كافيا. وكل المؤشرات تدل الى أن الإقليم الكردي أمام مرحلة صعبة، وأن الضغوط الإيرانية -التركية يمكن أن تتدرج وصولا الى الخيار العسكري. وقد بدأ التلويح بهذه الورقة عبر مناورات عسكرية تجريها تركيا وإيران، كل على حدة، على مقربة من الحدود مع كردستان العراق.
موقف الولايات المتحدة التي ليس مصادفة أن تكون الراعي الأهم لحكومة كردستان العراق، وفي الوقت ذاته، الداعم الرئيس لقوات "سوريا الديمقراطية" التي تمثل فيها وحدات حماية الشعب الكردي فصيلا رئيسا، والتي تعوّل عليها واشنطن في المعارك ضد المتشددين في الشمال السوري. وبالتالي، فإن الاحتمال المستقبلي في إطار الصراع على بناء نظام دولي وإقليمي، هو تزايد المشكلات التي سوف تنتج من تلك الخطوة، وانسحابها على رباعية العراق وسوريا وتركيا وإيران.
الاستفتاء حصل ، ولكن ماذا بعده؟ الاستفتاء ليس نهاية المطاف وإنما هو البداية، بداية مرحلة جديدة في العراق والمنطقة ستكون معقدة وخطيرة. الاستفتاء أطلق "مرحلة ما بعد داعش" في الشرق الأوسط، وهذه المرحلة يصعب التكهن بمسارها ومصير الدولة الكردية الموعودة نظرا للتشابك الحاد في خيوط اللعبة الدولية والإقليمية وتضارب المصالح.