ارشيف من :آراء وتحليلات
الأكراد والقبول بحقائق الواقع المؤلم
يوم الاثنين، السادس من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أصدرت المحكمة الاتحادية العراقية العليا قرارها بشأن الاستفتاء الكردي الذي أجري في الخامس والعشرين من شهر ايلول/سبتمبر الماضي، معلنة فيه عدم وجود نص في الدستور يجيز انفصال أي من المكونات المنصوص عليها فيه من العراق، والزمت كافة السلطات الاتحادية في المحافظة على وحدة البلاد.
نيجرفان البارزاني ابدى استعداد الاقليم تسليم كافة واردات النفط والمنافذ البرية والمطارات للحكومة الاتحادية
قد يبدو قرار المحكمة الاتحادية للبعض-لاسيما الاكراد-سياسيا، ومتوافقا مع عموم الأجواء والمناخات والمستجدات السياسية في بغداد بشأن العلاقة مع إقليم كردستان، بيد ان ما يعطي القرار مقبولية قانونية، هو أنه من جانب جاء منسجما مع عدد من النصوص الدستورية الواضحة، وخصوصا المادة الأولى من الدستور، وكذلك باعتبار ان المحكمة الاتحادية مثلت في أغلب الأحيان مرجعية قانونية يعتد بها للفرقاء السياسيين، ومنهم الأكراد، حول القضايا الإشكالية الخلافية.
فبعد أن فقد دعاة الاستفتاء والانفصال في الإقليم الغطاء السياسي اللازم لهم، محليا واقليميا ودوليا، لم يعد هناك من أمل لديهم بالغطاء القانوني بعد قرار المحكمة الاتحادية.
وتزامن قرار المحكمة الاتحادية مع مصادقة مجلس الوزراء الاتحادي في بغداد على مشروع الموازنة لعام 2018، والذي تم بموجبه خفض حصة الإقليم من 17% الى 12.67%، ما أثار حفيظة حكومة الاقليم، ودفع رئيسها نيجرفان البارزاني الى التصريح باستعداد الاقليم تسليم كافة واردات النفط والمنافذ البرية والمطارات للحكومة الاتحادية بشرط الابقاء على نسبة الـ (17%)، علما أن الأكراد كانوا خلال الأعوام الماضية يضغطون ويتفاوضون من أجل رفع حصة الإقليم الى 22% !.
وللوهلة الأولى، فمن المستبعد أن تتراجع حكومة بغداد عما قررته، خصوصاً حينما يعرض مشروع الموازنة على مجلس النواب، وتحظى فقرة تخفيض حصة الإقليم بموافقة كل الأعضاء، سوى الأكراد، الذين من المؤكد انهم سيقاطعون جلسة التصويت أو ينسحبون منها.
في الوقت ذاته، فإن الجانب الكردي، لا يمتلك أوراق تفاوض وضغط حقيقية، يمكنه من خلالها الحصول على مكاسب معينة، في ظل ميزان قوى لا يميل لصالحه بالكامل، وفي أفضل الأحوال من المحتمل ان ترفع نسبة الـ(12.67) الى 15%، ولكن وفق شروط والتزامات عسيرة على اربيل، بيد أنه لن يكون امامها خيار غير القبول والاذعان.
وأبعد من ذلك قليلا، فان ضعف الموقف الكردي، يتجلى باستعادة الحكومة الاتحادية سلطاتها على المنافذ الحدودية الرئيسية، مثل فيشخابور وابراهيم الخليل مع تركيا، ولم يعد مسموحا هناك برفع العلم الكردي، واكثر من ذلك فان رئيس اركان الجيش الفريق أول ركن عثمان الغانمي أصدر أوامر مشدَّدة تقضي بازالة العلم الكردي من زي العناصر الكردية التي تشارك الى جانب القوات الاتحادية في ادارة وحماية المنافذ الحدودية.
ويتجلى ذلك الضعف ايضا بفقدان النفوذ في الكثير من المناطق المتنازع عليها، وفي مقدمتها مدينة كركوك، التي يعدها الاكراد "قلب كردستان"، وقد تسبب ذلك في اتساع نطاق الخلافات والتقاطعات بين الفرقاء الاكراد بشكل ينذر بتفجر الاوضاع في اية لحظة.
ولان المطلب الرئيسي للحكومة الاتحادية، هو الالغاء الصريح لنتائج الاستفتاء، فان الدعوات الكردية الى الحوار بين بغداد واربيل لن تجد اذانا صاغية من قبل اصحاب القرار الاتحادي، رغم اشارات واشنطن الباردة بضرورة الحوار بين الطرفين لحل المشاكل العالقة ومعالجة القضايا الخلافية.
وربما كان المؤمول أن يساهم تنحي مسعود البارزاني عن السلطة بحلحلة الامور بقدر معين، إلا أن تحويل اغلب الصلاحيات الى صهره وابن اخيه، نيجرفان البارزاني، بدد الامال بامكانية حصول تحول حقيقي على ارض الواقع، رغم ان نيجرفان يحاول على ما يبدو تبني نهج معتدل، يجنب الاقليم المزيد من المشاكل والازمات.
فمسعود البارزاني، رغم تنحيه عن كرسي الرئاسة الا انه بقي متصدرا المشهد العام، اذ انه بقي محتفظا بزعامة الحزب الديمقراطي الكردستاني، صاحب السلطة الحقيقية في اربيل ودهوك، الى جانب كونه القائد الرمزي-ان لم يكن الفعلي-لقوات البيشمركة، ولعل اخر تصريح له، والذي قال فيه انه غير نادم على اجراء الاستفتاء، عكس تشبثا غير مجديا بمواقف وتوجهات سلبية.
فضلا عن ذلك، فان برلمان كردستان مازال معطلا، ووزراء ونواب حركة التغيير (كوران)، حتى الان غير مسموح لهم بدخول اربيل بأوامر عليا من حزب بارزاني، والاطراف السياسية من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني التي قررت سحب قوات البيشمركة من كركوك وعدم مواجهة قوات الجيش الاتحادي، اتهمت بالخيانة العظمى من قبل البارزاني، و(كوران) مازالت تكرر دعواتها الى تشكيل حكومة انقاذ وطني بديلة عن حكومة الاقليم الحالية. بينما تشهد كركوك والسليمانية تظاهرات تؤيد رئيس الوزراء حيدر العبادي من جانب، ومن جانب اخر تطالبه بتأمين رواتب موظفي الاقليم وعدم تحميلهم مسؤولية اخطاء الساسة الاكراد.
قد تحتم التداعيات السلبية التي افرزها الاستفتاء على عموم المشهد الكردي، عملية مراجعة شاملة واعادة نظر حقيقية، من اجل تصحيح المسارات الخاطئة، والتعاطي بمرونة مع الواقع القائم، وبدلا من المراهنة على تقبل الاخرين-محليا واقليميا ودوليا-للامر الواقع بعد الاستفتاء، كما كان يأمل البارزاني عبر تصريحات له قبل موعد اجراء الاستفتاء بأقل من يوم واحد، فان على اصحاب القرار الكردي تقبل الامر الواقع بكل ما يحمله من الم ومرارة، هذا اذا كانوا يريدون فعلا وضع حد لمسلسل الخسارات والاخفاقات المتتالية، التي اتت على كل ما تحقق من مكاسب وانجازات على مدى اعوام طويلة.