ارشيف من :نقاط على الحروف
راية الشهيد على طريق الأربعين
هدى رحمة
لم تمضِ على استشهاد ابنها أشهر قليلة، وضّبت أغراضها، فشمس الأربعين اقتربت، حرصت على أن تكون كل مستلزماتها جاهزة للزيارة، وفي أولوياتها، الشال الأصفر الذي لم يبارح عنقها، "بروش" عليه صورة الشهيد يزين حجابها، والأهم، الراية، فالمكان المقصود هو نينوى، وهكذا وِجهة تحتاج إلى دليل، إلى مفتاح، إلى سراج. وصمّمت الراية، صورة الشهيد عليها مزيناً بلقبه "شهيد الدفاع المقدس". فكانت الراية دليلها وأنيسها، وصاحب الراية سندها.
بضع قطرات من الدموع ذرفتها في المطار، هيبة المكان المقصود تستحق حرارة تلك الدموع، وهيبة الزيارة الأولى لها كأم شهيد دون وداعٍ "ماديٍّ" لابنها "علي" تستلزم بعض الدموع. لكنها، في عينيها كانت توقن أنها ليست ذاهبةً فقط لزيارة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، بل كانت تَعِدُ نفسها أنها ستجد إبنها "عليّ" هناك، في كربلاء، كيف لا وهو ناصر الحسين عليه السلام، كيف لا وهو ترك الأهل والحبيبة للذود عن مقام أخت الحسين الشهيد عليهما السلام، في معركةٍ هي أشبه بكربلاء، بين حقٍ وباطل، بين إنسانيةٍ وبطشٍ، بين آمانٍ ورعب. وما لبثت أن كفكفت دموعها وهي تدرك أنها تقصد أيضاً ابنها الشهيد.
على درب الحسين في الاربعين
وهناك، في النجف الأشرف، وبعد استئذانها من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لزيارة ابنه الشهيد مشياً على الأقدام، كانت راية الشهيد ترفرف أمامها، وعيناه الخضراوان يلمعان في عينيها.
بهيبةٍ ووقارٍ مشت، لم تطلب شيئاً، لم تتأفف، لم تشتكِ من تعب المسير وحرارة الشمس وبرد الليل. كيف لا تكون قويةً ومن يسندها هو ابنها الشهيد، وشال أم الشهيد يكلّلها، بين فينةٍ وأخرى تنظر إلى الراية بشموخٍ وتبتسم، فقد ضربت لنفسها موعداً مع ابنها في كربلاء. ثم تصرّ على حمل الراية، لكنّ من معها يتنافسون على حملها، هي راية شهيدٍ سقط لتعلو راية "هيهات منا الذلة". ووصلت إلى كربلاء، بعد يومين من المسير سيراً على الأقدام، وهناك كل الحكاية، في الطريق إلى مقام سيد الشهداء تلتفت يمنةً ويسرة، أينك يا عليّ، بنيّ، خلتك هنا، تنتظرني، تزور إمامنا الحسين عليه السلام مثلي، ولدي، يا ثمرة عمري، هل لي بنظرةٍ إليك، هلّا دخلنا مقام الحسين عليه السلام سوياً!
مع ولدها الشهيد..
وترى القبة الساطعة، تسحرها، تأخذها لكربلاء عام واحد وستين للهجرة، تمرّ أمامها مواقف كربلاء بعين قلبها، تنسى ابنها، ترى الحسين عليه السلام وحيداً منادياً "ألا من ناصرٍ ينصرني، ألا من معينٍ يعينني، ألا من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله." وترى زينب الحوراء عليها السلام تخرج من الخيمة وتقدم جواد المنية لأخيها إمام زمانه، وتوَدّعه، وهي تعلم أنه بعد ساعةٍ سيكون شهيداً.
حدث ذلك قبل سنتين في ذكرى الأربعين.. تدخل "عروبة" أم الشهيد "علي حسين عاشور" إلى مقام الحسين الشهيد عليه السلام، وبيدها الراية، تمسح بها القفص المعطر، تناجي إمامها الشهيد المظلوم بخلجات قلبها، أودعتك ثمرة فؤادي سيدي يا حسين، فداك ابني، وكل أولادي، إقبل منا سيدي يا أبا عبدالله. وتدعو عند الضريح تحت القبة الشريفة، أن يكون كل أبنائها مستشهدين بين يدي حامل راية "يا لثارات الحسين".
كلنا عباسك يا زينب