ارشيف من :أخبار لبنانية

تـذكّـروا المـاء!!

تـذكّـروا المـاء!!
لـؤي تـوفيـق حسـن(*)
بين كفاية الخزان المائي اللبناني وشح مياه الشفة في المناطق اللبنانية يكمن سوء رهيب لإدارة الموارد. تماماً كما يكمن من جانب آخر قدر كبير من الغباء – حتى لا نقول شيئاً آخر! – بين أطماع اسرائيل في الموارد المذكورة، واستنكار بعض الساسة اللبنانيين لسلاح المقاومة بوصفه صيغة فريدة أثبتت فعاليتها في ردع اسرائيل، ردعاً غير مسبوق البتة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني.
أما الجادّون حقاً بوضع تصور لاستراتيجية دفاعية فيجب ان لا تغيب الرؤية المستقبلية عن قراءتهم. وهي ان الماء كما النفط عاملان سيرسمان ملامح مستقبل منطقتنا للعقود القادمة.
وإذا كان النفط مادة قابلة للنفاد ما قد يجعل الصراع عليه محكوماً بتوفير بدائل أخرى للطاقة، فإن الاستحالة هي في تأمين بدائل أخرى عن الماء، مادة الحياة الأولى. وهذا سيشكل فتيلاً لصراعات قادمة في منطقة مضطربة بالأساس. وذات موارد مائية محدودة ليسلك بعدها الاستحواذ على هذه الأخيرة مسالك معقدة، فكيف إذا ما تقاطع الماء والنفط معاً في إحدى أهم حلقات الاستراتيجية الأميركية ونعني اسرائيل بوصفها (حارساً) لمصالح الغرب فيما شرط استمرارها يتوقف بالدرجة الأولى على المياه كما سنبين.
لقد أدركت أميركا منذ وقت مبكر في مطلع خمسينات القرن الماضي مخاطر العجز المائي على مستقبل اسرائيل فسارعت لتداركه فيما سُمي "مشروع جونستون" لتوزيع مياه نهري الأردن واليرموك وروافدهما بين الكيان المذكور وكل من سوريا ولبنان والأردن. لكن هذا المشروع لم يبصر النور لرفض العرب له.
البعد التاريخي
لتـذكّـروا المـاء!!
م يفت "الآباء" الأوائل للحركة الصهيونية الرؤية المسبقة لمسألة الموارد المائية وهم يجدّون لجعل فلسطين كيانهم العنصري. ولهذا سعوا منذ البدايات الأولى لكي تطال حدوده موارد المياه ولا سيما في الشمال. وفي هذا الصدد وجّه حاييم وايزمان في 29/12/1919 رسالة إلى الحكومة البريطانية اعترض فيها على تقسيمات سايكس ـ بيكو لأنها تؤدي إلى "تقسيم فلسطين التاريخية"، وتحرم بحسب زعمه "الوطن القومي اليهودي من أجوَد حقول الاستعمار في الجولان وحوران"!!، وفي "مؤتمر السلام" في فرساي (باريس) جرت أيضاً المطالبة بضم جنوب لبنان مع جبل الشيخ إلى فلسطين في مذكرة رفعتها الحركة الصهيونية، وخلال هذا المؤتمر اتصل كل من بن غوريون ووايزمان بالبطريرك الماروني الحويك لإقناعه بالتخلي عن جنوب لبنان بوصفه ذا "أكثرية إسلامية" بحيث يصبح نهر الليطاني الحدود الفاصلة بين "دولة لبنان الكبير" المنوي إنشاؤها وفلسطين!، غير أن الأمر أحبط جرّاء رفض الحويك ومجاراة فرنسا له. لكن الحلم الصهيوني في السيطرة على الليطاني ظل ماثلاً. وفي هذا الصدد كان ليفي أشكول رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق أقل صلافة عندما صرّح عام 1953 بأن "إسرائيل العطشى لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى نصف مليار م3 من مياه الليطاني تضيع في البحر"، بينما كان بن غوريون مباشراً وفظاً على طريقته وهو يصرّح بعد حرب 67: "إن أمنيتي في المستقبل أن يصبح الليطاني الحدود الشمالية لإسرائيل".
بعد سايكس ـ بيكو سعت الثنائية الإنكليزية ـ الفرنسية للتعويض على "إسرائيل الموعودة". فقد انتزعت من لبنان القرى السبع المشهورة بآبارها وينابيعها، وبعدها منطقة الحولة. كانت تسمى "جورة الذهب"، وبذلك سلخ عن لبنان ما مجموعه 23 قرية! تحت ستار ثلاث اتفاقيات بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني: اتفاقية الحدود (1920)، واتفاقية بوليه، نيوكمب (1923)، ثم معاهدة حسن الجوار(1926).
الحاضر
يتصوّر البعض بأن تمسك "إسرائيل" بالضفة الغربية يعود إلى أسباب أمنية وحسب. والحقيقة هي أن هذا يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، بل إن الواقع يؤكد أن الضفة تشكل عبئاً أمنياً على "إسرائيل" تضطر لتحمّله بالنظر لما تضخه من مياهها والمقدّرة بـ 750 مليون م3 سنوياً تشكل 40% من المياه المستهلكة في هذا الكيان.
وهذا الرقم ظلّ قيد الكتمان حتى أفصح عنه تقرير لتكتل الليكود في معرض السجالات خلال انتخابات الكنيست عام 1992. الأكثر من ذلك جاء على لسان صحيفة "هارتس": "إن نقل السيادة للفلسطينيين على غور الأردن حتى خط المياه سيكسبهم حقاً في المطالبة بجزء من مياه نهر الأردن.... مثل الشريكين الآخرين إسرائيل والأردن..." ، وتوفر الصحيفة المذكورة عناء أي استنتاج عندما تصل إلى أن "لسيادة للفلسطينيين على غور الأردن حتى ضفة النهر أبعاداً تتجاوز القضايا العسكرية، والإقليمية والأمنية".
أما الجولان فإنه يسد 30% من احتياجات "إسرائيل". ومن هنا يستمد أهميته وليس للعامل الجغرافي الذي سقط من كل الحسابات بوجود الأسلحة الحديثة كالصواريخ أو غيرها من وسائل الاستطلاع المتطوّر.
وتأتي أهمية الجولان في الحسابات الإسرائيلية من حقيقتين:
1- إن اثنين من روافد نهر الأردن ينبعان من هضبة الجولان ويساهمان بنحو ثلث مياهه.
2- إن الجولان "يعوم فوق بحر من المياه الجوفية" كما جاء في تقرير معهد تخطيط المياه الإسرائيلي، (تاهال). وقدّره المعهد بنحو مليار متر مكعب تجري تغذيتها باستمرار من الهطل المطري الذي يبلغ مجمله حوالى 1.2 مليار م3 في السنة.
وتفصح إسرائيل عن أطماعها بهذه الثروة في ما جاء على لسان وزير خارجيتها الأسبق ديفيد ليفي بعد عودته من المفاوضات مع سوريا في شيبردتاون - (فرجينيا الغربية)-. حيث قال: "لا تريد إسرائيل ضمانات لمياه طبرية وحسب، بل الاستمرار في جر المياه من الجولان كذلك".
أما اتفاق وادي عربة فلم يعد كما وصفه الملك الراحل حسين بأنه أوجد "حلولاً خلاّقة" لمسألة المياه، إذ العبرة دائماً في التطبيق، فقد أمل الأردن الحصول على 218 إلى230 مليون م3 من مياه اليرموك على مدار السنة. وهذا بالمناسبة أقل من حصته في مشروع جونستون الآنف ذكره!! ومع ذلك فإن حق الأردن بالتزوّد بـ 55 مليون م3 صيفاً من نهر الأردن ظل مهدوراً بحجة "الجفاف" من الجانب الإسرائيلي، ولم يجد وزير البنى التحتية آنذاك إيلي سويسا حرجاً في القول "لا تستطيع إسرائيل مواصلة تزويد الأردن بكمية المياه التي التزمت بها".
أرقام لها دلالات
إذا وضعنا في الاعتبار أن 62% من المياه المتوافرة لـ"إسرائيل" تستهلك في الزراعة، وأن 70% من هذه المياه تأتي من خارج "حدود" العام 1948، وإذا قابلنا ذلك بما تعانيه "إسرائيل" من عجز مائي بلغ حوالى 500 مليون م3 سنوياً، ويتوقع خبراء معهد "تاهال" بأن هذا العجز سيصل إلى حوالى مليار متر مكعب سنوياً على فرض أن "أجواء السلام" مع الجوار ستؤدي إلى قفزات في تعداد سكان "إسرائيل" حيث يتوقع عودة مَن ترك من المهاجرين الروس، واستقطاب المزيد!!!.
متى وضعنا كل ما سبق في الاعتبار فهمنا جوهر وخلفية كل ما يشهده لبنان، فهو في نظر "إسرائيل" خزان الماء الذي يمكن أن يسد حاجتها الحالية والمستقبلية.. ما يدّخر لها من إمكانيات البقاء وتحقيق مخططاتها في السيطرة على المنطقة.
هناك أكثر من تقرير أشار في الماضي إلى قيام "إسرائيل" بسحب قسم من مياه الليطاني خلال احتلالها للجنوب. هنا نشير إلى ما قاله الأميركيون مثل البروفيسور توماس ناف خلال شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي: "إن إسرائيل تجري عملية نقل مياه على مستوى كبير من نهر الليطاني..."، فيما أكدت تقارير أردنية سابقة أن "إسرائيل" شرعت اعتباراً من 1989 بضخ 400 مليون م3 سنوياً إلى صحراء النقب كما ذكر داوود خلف وزير الري الأردني آنذاك. وباختصار، فإن "إسرائيل" قامت بأكبر عملية سرقة للمياه اللبنانية خلال احتلالها للجنوب: 92% من مياه نهر الحاصباني وكل مياه الوزاني!! فضلاً عمّا ذكرناه.
تذكروا
لا شك بأن تحرير الجنوب قد أوقف هذه السرقة الموصوفة، كما أن امتلاك المقاومة لإمكانيات الردع مكّن لبنان لأول مرة من تركيب مضخات على نهر الوزاني لإرواء عدد من القرى الجنوبية.
غير أن ما سبق أو سواه على أهميته يجب أن لا يدعونا للاطمئنان، ويغمض أعيننا للحظة عن استعدادات "إسرائيل" لجولات عسكرية أخرى. فلبنان في استراتيجية "إسرائيل" هدف ثابت وثمين بوصفه (خزان المياه) القريب منها، وبالتالي الحل الأمثل فنياً واقتصادياً لمشكلة شح المياه التي عليها يتحدد شكل مستقبل "إسرائيل". وهذا بالتوازي لإدراكها أن الحل في مشروع "قناة السلام" من تركيا عبر سوريا هو بالرغم من كلفته العالية فنياً بعيد المنال سياسياً لأنه غير وارد في المبدأ عند الطرف السوري وفي أية مفاوضات.
تعرف "إسرائيل" أن وضع اليد على "الخزان اللبناني" مسألة محض سياسية تقررها موازين القوى العسكرية، وهي تستعد لذلك، كما ذكرنا، ولكن بالتوازي مع تحضير ملفاتها الفنية والقانونية!!.
أما فنياً فكل الدراسات كما أشرنا جاهزة، بل إن محطات الضخ قائمة منذ خمسينيات القرن الماضي، بحسب ما قاله أشكول: "إن القنوات باتت جاهزة في إسرائيل لاستقبال مياه الليطاني المحمولة"! وهي القنوات التي تمت عبرها سرقة مياه الليطاني خلال احتلال الجنوب، أما قانونياً، فإن "إسرائيل" ستطرح في اللحظة السياسية المناسبة هذا الملف استناداً إلى أمرين:
1- الادعاء بوجود اتصال جوفي بين حوض الليطاني وروافد نهر الأردن وذلك بموجب "اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية"، والذي وافقت عليه الأمم المتحدة في أيار 1997. وبعيداً الآن عن حيثيات الأمر وغيره من التفاصيل فإن الاتصال الجوفي مسألة مزوّرة روّج لها خبراء أميركيون في جامعة ميتشيغان، (جون كولارز)، بالاتفاق مع "إسرائيل". لكن الدراسات الهيدرولوجية الفنية أثبتت أن هذا الاتصال غير موجود، وجرى تفنيد هذا الادعاء من قبل مجموعة من الخبراء اللبنانيين وغيرهم أيضاً.
2- العودة إلى اتفاقية الحدود المبرمة عام 1920 بين الانتدابين البريطاني والفرنسي، حيث تنص المادة الثامنة على استغلال مياه نهر الأردن الأعلى واليرموك وروافدهما. أي الوزاني والحاصباني وغيرهما، لإنتاج الطاقة الكهربائية و"استخدام فائض هذه المياه لمصلحة فلسطين"!.
لقد حضرت إسرائيل مطالعاتها القانونية استناداً إلى المادة المذكورة وسواها ممّا جاء في "اتفاقية الهدنة"، لتجعل الحكومة اللبنانية ملتزمة باتفاقية الحدود المذكورة باعتبارها وارثة لها!!
بعد كل هذا وذاك، نرى بعض الساسة اللبنانيين يزعجهم سلاح حزب الله !! فيتحدثون بأعلى الصوت عن نزعه تارة بشكل مباشر وتارة بشكل غير مباشر تحت عنوان "استيعابه بالتدريج"!! في الجيش اللبناني، فيما يدرك العارفون في قضايا الدفاع أن في ذلك إلغاءً لمزايا المنظومة العسكرية للمقاومة. وبالتالي جعلها تقاتل وفق أنسب الشروط الإسرائيلية. عملية أشبه بدفع لاعب ماهر في الكاراتيه ليلعب المصارعة مع محترفيها!!!
عند الحديث عن "الاستراتيجية الدفاعية" تذكروا الماء. هذا فقط لمن لديه الاستعداد ليتذكر!!.
(*) كاتب من لبنان
2009-08-14