ارشيف من :مقاومة

عن معركة بنت جبيل التي رسمت صورة النصر الإلهي:هكذا سقطت خطة بيت العنكبوت

عن معركة بنت جبيل التي رسمت صورة النصر الإلهي:هكذا سقطت خطة بيت العنكبوت
شكلت بنت جبيل على مدى تاريخها القريب والمتوسط موئلا للحركات التحررية في الجنوب ولبنان بشكل عام، حيث عكست شوارعها تلاوين الحياة السياسية اللبنانية بمختلف تشكيلاتها اليمينية واليسارية. ولطالما ترددت في أزقتها شعارات التضامن مع القضايا العربية والإسلامية، وأحيانا العالمية.
لذلك كان لا بد لهذه البلدة العاملية من أن تجد نفسها تلقائيا في خط دعم المقاومة التي توجت نضالاتها بتحرير العام ألفين، واستعادت "حاضرة جبل عامل" دورها الطليعي في احتضان المقاومة كما فعلت مع باقي المقاومات التي مرت على المنطقة منذ العهد العثماني مرورا بالانتداب الفرنسي. ويختصر لقب "عاصمة التحرير والمقاومة" التي أطلقه سماحة السيد حسن نصر الله ما يختزنه تاريخ وحاضر هذه البلدة من نضالات استحقت من خلالها بنت جبيل الوصول الى شرف هذا اللقب.
النيات المبيتة
لم يكن اندحار العدو الإسرائيلي عن جنوب لبنان في أيار 2000 نهاية المعركة معه، وإنما شكل هذا الحدث برغم أهميته التاريخية والاستراتيجية لجهة الصراع العربي الاسرائيلي نقلة في النظرة الاسرائيلية الى عدوهم الشمالي الذي كسر "مقولة قوة لبنان في ضعفه"، و"العين لا تقاوم المخرز"، وكان بالتحديد خطاب النصر لسيد المقاومة في 25 أيار 2000 الذي ألقاه في بنت جبيل الحافز لهم للبدء برسم الخطوط الاولى لما اعتبره جنرالات الكيان الصهيوني ضرورة رد الاعتبار لهيبة جيشهم، وبالخصوص بعد كلام سماحته عن ان "اسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، وأن زمن الهزائم قد ولّى، وما يمكن ان ينتجه هذا الخطاب من روح مقاومة في الأمتين العربية والإسلامية. وقد انكب بعدها راسمو السياسة العسكرية في جيش العدو على وضع الخطط العسكرية لرد الصفعات التي وجهتها لهم المقاومة على مدى السنوات الماضية ووضع حد للتطور الشعبي لهذا التنظيم الذي يتغلغل داخل الشارع العربي. وأصبحت هذه الخطط جاهزة ما بين العامين 2004 و2005 بتنسيق أميركي إسرائيلي، بينما لم يكن ينقص واضعيها إلا الفرصة المناسبة للبدء بصرف بنك الأهداف الذي حضرته مختلف وسائلهم التجسسية طوال الفترة الماضية.
صدق الوعد في وعد الآخرة
في 12 تموز 2006 نفذت عملية الوعد الصادق، حيث تمكنت المقاومة من أسر جنديين اسرائيليين، اضافة إلى قتل ثمانية آخرين وتدمير ثلاث دبابات ميركافا من الجيل الرابع خلال ساعات قليلة، الأمر الذي لن تستطيع القيادة العسكرية ولا السياسية تبريره أمام جمهورها، فارتفع بعدها مباشرة الكلام عن "رد الاعتبار" و"إعادة الهيبة" و"ضرورة لجم حزب الله".. وغير ذلك من كلام يشير إلى عزم الجيش الإسرائيلي على فتح معركة فاصلة مع المقاومة، خاصة بعد تلقيه العديد من رسائل الدعم الدولية والإقليمية.
وفيما بدأ الطيران الإسرائيلي خلال الأيام الأولى للعدوان يصرف ببذخ من بنك أهدافه، كانت العين الإسرائيلية ثابتة على مدينة بنت جبيل، وما الحديث الإسرائيلي عن كونها "معقل حزب الله" و"عاصمة الإرهاب في العالم" الذي ظهر خلال الاسبوع الثاني من العدوان، إلا من قبيل تحضير جميع من يهمهم الأمر لاحتلال هذه المدينة التي لا تبعد عن الحدود مع فلسطين المحتلة أكثر من كيلومتراً واحداً، وإعلان العزم على رفع العلم الإسرائيلي فوق المكان نفسه الذي خطب فيه سيد المقاومة في أيار 2000.
بعد الإعلان الإسرائيلي المزعوم عن سقوط مارون الراس بدأ الإسرائيلي بتحضير نفسه للدخول إلى بنت جبيل واحتلالها برغم إعلانه المسبق بأنه لا ينوي احتلال القرى، وإنما اتخاذ مواقع مشرفة عليها تمكنه من السيطرة بالنار ورؤية ما يدور داخلها.. الا ان ما تحمله بنت جبيل من خصوصية بالنسبة إلى الإسرائيلي حملته على استثناء "عاصمة التحرير" والتحضير الميداني لاحتلالها.
الأجواء الميدانية
اختارت القيادة العسكرية الاسرائيلية الكتيبة (51) التابعة للواء غولاني المؤلف من القوات الخاصة الاسرائيلية لاحتلال بنت جبيل، فكانت باكورة محاولة دخولها بعد ساعات قليلة (8) قتلى وعدداً آخر من الجرحى وقتالا عنيفا دفع قائد المنطقة الشمالية آنذاك الجنرال عودي آدم الى الاعتراف أمام الصحافيين بأنه "كان يوما صعبا"! وأضاف آدم انه بعد يومين من القتال المرير الذي أدى الى مقتل (10) جنود، لم تقع بنت جبيل تحت السيطرة الاسرائيلية.
في التكتيك اختار الجيش الاسرائيلي للدخول الى بنت جبيل ثلاثة محاور رئيسية: فغربا قام بإنزال قوة عند تلة شلعبون او تلة مسعود وتمركزت في أحد القصور المشرفة على البلدة، وشرقا تقدمت قوة مؤللة من ناحية مارون الراس الى مربع بنت جبيل ـ عيترون ـ عيناتا ومارون، فيما تحصنت القوة الثالثة جنوبا عند مدخل بنت جبيل لجهة يارون في منطقة الخزانات واتخذت من أحد القصور المشرفة هناك مركزا لقيادة العمليات.. وكانت هذه القوات التي من المفترض ان تشكل كماشة الاطباق على بنت جبيل نواة القوة التي ستتقدم الى داخل البلدة، تاركة الجهة الشمالية منها مفتوحة لتمكين المقاومين من الهروب عملا بالتكتيكات العسكرية التي تقول بعدم إطباق الطوق على المقاتل اذا كان المهاجم لا ينوي خوض معارك عنيفة وضارية معه. وقد مهّد الإسرائيلي لعملية التقدم بقصف متواصل للبلدة عبر الطيران والمدفعية استمر (48) ساعة متواصلة قامت خلالها الطائرات بأكثر من 500 غارة جوية على الأحياء القديمة للبلدة، فيما مهد اللواء السابع الاسرائيلي المدرع للهجوم طوال يومي الاثنين والثلاثاء (23 و24 تموز) وجهز لواء مهندسين لتطهير المخابئ والألغام وغيرها من المتفجرات، بينما كانت مهمة لواء من المظليين الانقضاض على مقاتلي حزب الله. وكان من المفترض ان يتمكن "المشاة من تأمين المنطقة والتوسع في الحملة" طبقا لما ذكره الضباط.
وهكذا بدأ الجنود الصهاينة بالتقدم، وكان رجال الله بالانتظار، "كان الكمين شرسا وقاتلا، مؤلفا من نيران الرشاشات وصواريخ "آر بي جي" المحمولة على الكتف والصواريخ المضادة للدبابات".. لخص احد الضباط صورة الوضع الميداني لصحيفة "نيويورك تايمز" في الأيام الاولى للمعارك. ومع ان الاسرائيليين توقعوا مقاومة من قبل مقاتلي المقاومة، الا أن المعلومات لديهم كانت تشير الى ان الغارات الاخيرة قضت على الفعالية القتالية للحزب في بنت جبيل، اضافة الى العمليات الخاصة التي ادعوا انهم قاموا بها وقضت على من تبقى منهم في البلدة.
لكن الساعات القليلة التي تلت قلبت الصورة، فقد أصبحت الأولوية لأفراد الكتيبة (51) هي الدفاع عن أنفسهم وإخلاء الجرحى أمام الهجمات المتعاقبة للمقاومة التي دارت على جميع المحاور، والتي استعملت فيها جميع الاسلحة الخفيفة والثقيلة، واعترف الجيش الاسرائيلي بسقوط (9) قتلى و(25) جريحا.
وفيما أشاد الجيش الاسرائيلي بالوحدة التي قاتلت في بنت جبيل، وشدد على أن حزب الله تكبد خسائر كبيرة، قال قائد الكتيبة الفريق يانيف أسور لصحيفة "يديعوت أحرونوت" إنه "جاهز لكل شيء".
فردت عليه الحكومة الأمنية المصغرة في "اسرائيل" التي عقدت اجتماعا لها ذلك المساء على خلفية نتائج معركة بنت جبيل بقرار "عدم شن حملة برية موسعة بعد أن أشار الوزراء إلى أن تكثيف الغارات الجوية قد يشكل بديلا ويخفف من الخسائر البشرية في صفوف الجيش".
ولكن كان للمقاومة رد آخر، فقد ذكر مراسل الإذاعة الاسرائيلية أنه "في الساعة الخامسة من فجر أمس (28 تموز)، بدأت قوات الجيش الاسرائيلي تدخل بلدة بنت جبيل (لجهة مربع التحرير) في خطوات حذرة للغاية، تمشطها بيتا بيتا. وكلما كانت تكتشف موقعا لـ"حزب الله" أو خندقا أو نفقا أو غرفة عمليات، تبشر القيادة بأنها تتقدم وتحرز الانجازات.. وما هي إلا ساعة حتى تبين ان مقاتلي "حزب الله" نجحوا مرة أخرى في نصب كمين للقوات الاسرائيلية.. فقد هوجمت القوة المحتلة بشكل مفاجئ بوابل من اطلاق النار والقذائف الصاروخية وقذائف "آر بي جي"، بعد أن أتاحوا لها التقدم بضع عشرات من الأمتار، وطوق مقاتلو "حزب الله" هذه القوة من كل جانب.. وتوزع المقاتلون على عدة محاور ليمنعوا وصول الإمدادات للجنود المحاصرين ويقطعوا تواصلهم مع قيادتهم".
ولم يكن وضع محور الخزانات أفضل على الاسرائيلي، فقد قال رائد وملازم شاركا في هذه المعركة "ان الجنود المحاصرين في بنت جبيل لم يستطيعوا الرد على النيران إلا بعد حوالى ساعة بسبب عدم تمكنهم من تحديد مصدر النيران في البنايات المحيطة بهم. واستغرقت عمليات التعزيزات وإخلاء الجرحى والمصابين جزءا كبيرا من اليوم.. علما بأن طائرات الهليكوبتر الاسرائيلية كانت تهبط على بعد ميلين (داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة) كي تكون بعيدة عن مرمى نيران مقاتلي "حزب الله". كان على الجنود إخلاء زملائهم الجرحى وحملهم مسافة ميلين تحت نيران مقاتلي "حزب الله" ووعورة المنطقة لإيصالهم الى طائرات الهليكوبتر التي هبطت تحت غطاء القنابل الدخانية".
وكذلك لم يكن وضع الجهة الغربية عند تلة مسعود أفضل حالا، فالقصر الذي تمركزت فيه القوة تحول الى هدف ثابت لنيران المقاومة، بحيث لم يستطع الاسرائيلي التقدم والتمركز شبرا واحدا تجاه هدفه عند مستشفى الشهيد صلاح غندور، برغم الإمدادات المتواصلة التي كانت تصلهم جوا بداية ثم عبر الطريق التي شقتها الجرافات عبر رميش ـ عين ابل.. وكان الهدف الاسرائيلي من وراء هذا التقدم الوصول الى مكان مركز الـ(17)، وهو نقطة استراتيجية مهمة من الناحية العسكرية. وإن نموذجا من البيانات العسكرية الاعلامية يظهر صورة الأوضاع التي عاشها ذلك المحور، ففي بيان لغرفة عمليات المقاومة "أكدت أنه منذ الساعات الأولى من الصباح تدور مواجهات عنيفة بين مقاتليها وقوات الاحتلال في محور تلة مسعود المشرفة على مدينة بنت جبيل، وإن مقاتليها تمكنوا من تدمير آليات عسكرية "إسرائيلية"، وإيقاع إصابات عديدة في صفوفها، بينها قتلى. وقال البيان: إن جثث هؤلاء ما زالت في أرض المعركة ويحاول الجيش عبثا إجلاءها". وأعلن لاحقا بيان للمقاومة الإسلامية: "وقد نجح مقاتلو حزب الله في الإطباق على مجموعة تضم (18) جندياً إسرائيليا، وأمطروها بوابل من النيران والقذائف.. وعندما تدخلت مجموعة أخرى لنجدتها تضم (18) جندياً أيضا، كانت مجموعات أخرى من المقاومة تكمن لها، فوقعت في "مصيدة" حزب الله". وتعليقا على ذلك قالت مصادر إعلامية إن جميع عناصر المجموعتين ـ (36) جندياً ـ أصيبوا، وإن القوات الإسرائيلية تأكدت من مقتل (8) منهم، وأن (6) جنود كان وضعهم خطراً، فيما اعتبر (4) في عداد المفقودين. وأعلن متحدث باسم الجيش أن (8) قتلوا في الاشتباكات التي وصفها بأنها عنيفة مع مقاتلي حزب الله في محيط بنت جبيل.
وتروي الحاجة أمّ علي جوني التي أبت ان تترك الشباب طول مدة الحرب، كيف انهم كانوا يسمعون صراخ الجنود الصهاينة عندما يقعون في كمائن المقاومة في كل مرة كانوا يحاولون فيها التقدم نحو مدرسة المبرات قرب المستشفى، حيث يعلو صراخهم وهم ينادون "إيغوز.. إيغوز".
وهذا ما اضطر باقي القوة الى الانسحاب على عجل تاركة وراءها جميع معداتها التقنية والتجسسية، حيث تكفل الطيران بعد ذلك بالقيام بعدة غارات على القصر لتدميره بشكل كامل منعا لوقوع تلك المعدات بأيدي المقاومين.
"خطط غير خلاقة" وأشباح..
بحسب المقاومة الاسلامية فإن التقدمات الاسرائيلية الثلاثة على محاور بنت جبيل كانت متوقعة، خاصة إنزال تلة مسعود التي لطالما أنزل العدو الاسرائيلي قواته فيها خلال اجتياحاته السابقة للجنوب، وهذا ما يفسر إبقاء المبادرة بيد رجال المقاومة طول مدة معركة بنت جبيل، حيث أفقدوا العدو عنصري المبادرة والمفاجأة، وبالتالي فإن ما ذكرته لجنة "فينوغراد" عن عدم وجود خطط خلاقة لدى قيادة الجيش الاسرائيلي في حربها على لبنان وافتقادها للإبداع في التعامل مع الواقع الميداني، هو الأمر الذي ينطبق بالحرف على معركة بنت جبيل التي تمكن حزب الله خلالها من معرفة المكان والزمان المناسبين لضرب القوات الغازية وبالاسلحة الفعالة، ودون تمكينها من كشف أعداده او أماكن انطلاق مجموعاته، الأمر الذي زرع في مخيلة الجنود الصهاينة مقولة أنهم كانوا يقاتلون أشباحا.. حتى انهم وصفوا أحيانا لباس تلك الأشباح والسيوف التي حملوها والخيول التي امتطوها.. ما دفعهم في الكثير من الاحيان الى الفرار من ارض المعركة، ما يفسر ارتفاع عدد الاصابات التي تلقاها الجنود الجرحى في ظهورهم او حالة التبول اللاإرادي التي أصابت العديد منهم، فيما لا يزال قسم منهم يتحدث عن تلك الاشباح التي أطلقوا عليها النار دون ان تصاب بأذى.
ما يمكن قوله كخلاصة إن معركة بنت جبيل شكلت انعكاسا لمعارك أخرى دارت على طول أرض الجنوب، فصور التصديات البطولية امتدت من عيتا الشعب الى مارون الراس وعيترون والطيبة وسهل الخيام، وكلها ارتسمت بتلاوين واحدة لم تغيرها إلا طبيعة الأرض، فيما لا شيء يشير الى ان رجال الله كانوا أكثر حماسة للدفاع عن قرية هنا دون قرية هناك، فتراب الوطن قيمته واحدة ولو كره الكارهون.
علي الصغير
2009-08-15