ارشيف من :مقاومة

مواجهات البطولة في ملحمة اسمها "عيتا الشعب"

مواجهات البطولة في ملحمة اسمها "عيتا الشعب"
الاحتلال بقي على مداخل القرية وصواريخ المقاومة استمرت بالانطلاق حتى اللحظة الأخيرة

عيتا الشعب لم تعد اسماً لبلدة تحتضن حجارة وتراباً، أو لوحة منازل بهضاب تظللها، أو مجرد تاريخ تحضر فيه الأسماء والأماكن.. لقد أصبح تراب عيتا مقلعاً لإنجاب الأبطال وسهلاً لإنبات الثوار، ومرجل تنور يحترق فيه الغزاة، وباتت حجارتها رصاصاً وصواريخ، ومنازلها قلاع جهاد وشهادة ومنابر عز، وكل شجرة وغرسة في عيتا لها قصة مع المجاهدين، فبعضها ارتوى بدماء الشهداء، وباتت عيتا تكتب التاريخ وترسم حدود الجغرافيا، وكل زاوية فيها تفخر وتروي قصة المقاومة وتقص حكايات البطولة.

مواجهات البطولة في ملحمة اسمها "عيتا الشعب"
عاشت عيتا وأهلها تفاصيل ملحمة تموز من ألفها إلى يائها، وما بعد بعد حروف أبجدية المقاومة والانتصار، وهي التي ألفت مشهدين دخلا في نسيج اليوم الجنوبي، الأول قصف يومي واعتداءات غادرة ومعاناة الحبس القسري داخل المنطقة المحتلة، والثاني مجموعات مقاومة تتسلل ليلاً وتتفيأ نهاراً عند شجيرات تلالها، وهجمات أسود الله على مواقع الاحتلال، ولكم تحدث أهل البلدة في مساءاتهم عن صولات أهل الحق وبسالة الشجعان وهم يجولون في ساحات المواجهة، ويستذكرون عويل جنود العدو وهم يفرون، وآخرين يلملمون قتلاهم وجرحاهم ويولون الأدبار.
التاسعة من صبيحة يوم الثاني عشر من تموز 2006 عايشت عيتا وأهلها تفاصيل عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، حيث نفذ المقاومون عملية أمنية ـ عسكرية خاطفة عند تلال الحدب وحقول "كعب الأرض" في خلة وردة المزروعة بأشجار الزيتون، والمحاذية لبلدة طربيخا، فيما كانت صواريخ المقاومة تتساقط على موقع الراهب الصهيوني. وكان للبلدة يومياتها في الحرب والمواجهات طوال ثلاثة وثلاثين يوماً، وشارك فيها كل ما فيها، بشراً وحجراً، رجالاً ونساءً، تراباً وماءً وهواءً، ولم يستطع جيش العدو على الرغم من زجه قوات نخبته، السيطرة على عيتا، وإنما بقي جنوده عند مداخلها وأطرافها، فيما صمد المجاهدون واستمروا في القتال من دون أن تتوقف الرمايات الصاروخية باتجاه المستعمرات الحدودية من داخل البلدة.
اعتاد أهل البلدة مشاهدة العديد من المواقع الحدودية والثكنات العسكرية التابعة للاحتلال التي تحيط بها، واعتادوا مشاهدة تحركات جنود العدو اليومية، لكن الاحتلال عمد في فترة ما قبل العدوان إلى تنفيذ سلسلة إجراءات مختلفة بهدف حماية هذه المواقع، وكثف من الدوريات والكمائن العسكرية عند الحدود. فيما كان مجاهدو المقاومة، كما العادة، على مستوى عال من الجهوزية، واتخذوا الإجراءات اللازمة قبيل تنفيذ العملية تحسبا لأي رد فعل قد يقوم به العدو. وتوزعت مجموعات المجاهدين على المحاور الحدودية المختلفة، وبعضها في التلال والهضاب المحيطة بعيتا الشعب للدفاع عنها وتحسباً لأي تقدم إسرائيلي.

عملية الأسر ومواجهات اليوم الأول
ظن الجميع أن ما يحصل هو إحدى عمليات المقاومة على موقع العدو، ولكن سرعان ما أدركوا أن ما جرى ليس أمراً عادياً. كانت المعارك قد بدأت عند محور "الخلة"، وطالت عملية المواجهة وتوسعت دائرة الاشتباكات، وبدأت قذائف المدفعية الإسرائيلية تنهمر على البلدة وجوارها، وبعد وقت قصير حاولت دبابة ميركافا إسرائيلية التقدم باتجاه تلة الراهب، وعندما وصلت إلى النقطة مباشرة فجر بها المقاومون عبوة ناسفة فتناثرت أشلاؤها بمن فيها في كل الاتجاهات، وقتل فيها أربعة جنود. واستمرت محاولات إخراج الدبابة من مكانها واستعادة الجثث حتى وقت متأخر من ليل نفس اليوم، ولكن من دون جدوى. وأطل الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله عصر ذلك اليوم ليعلن "الوعد الصادق" عنواناً لعملية أسر جنديين إسرائيليين، والهدف مبادلتهما بالأسرى اللبنانيين داخل سجون الاحتلال.
أغار الطيران المروحي على غرب عيتا الشعب، وحاول خلال الليل سحب الدبابة وإصاباته في ظل غطاء بالقصف العنيف، واستخدم الطائرات المروحية ظنا منه أن أيدي المقاومة لن تطالها، ولكن سلاح "الدفاع الجوي" في المقاومة تصدى للمروحيات وأفشل مهمتها فعادت أدراجها نحو داخل الحدود الفلسطينية المحتلة من دون تحقيق المهمة المطلوبة منها. يذكر أن هذه الدبابة تحديدا بقيت حتى نهاية الحرب، فالعدو لم يجرؤ على سحبها من أرض الميدان، بعدما فشلت محاولاته الجوية والبرية، وحاولت مجموعة مشاة في فترات لاحقة التسلل بهدف سحب الإصابات من هذه المدرعة المصابة، إلا أنها تعرضت لرمايات الإسناد البعيد، وألحقت فيها عدة إصابات.

قرار الاجتياح البري
مواجهات البطولة في ملحمة اسمها "عيتا الشعب"
اتخذت القيادة الصهيونية السياسية والعسكرية القرار ببدء تنفيذ خطة العدوان، ودفعت بألوية النخبة لدى الجيش الاسرائيلي، وتضم الوحدات الخاصة، وألوية غولاني، جعفاتي، ناحال، والمظليين. وتوالت يوميات المواجهة في عيتا.. في اليوم الثاني تقدمت قوة من مشاة العدو إلى مكان ضرب الدبابة، فعمل المجاهدون على استهدافها وأوقعوا أحد عشر جنديا بين قتيل وجريح، وقصفوا موقع العدو في تلة الراهب والمواقع الحدودية الأخرى. وسمع أهالي البلدة بواسطة مكبرات الصوت متحدثاً إسرائيلياً من موقع زرعيت المجاور يهددهم بترك البلدة لأن الجيش الإسرائيلي سيقوم بتدميرها، ولكن الأهالي الذين خبروا هذه الأساليب من الحرب النفسية لم يستجيبوا وبقوا في البلدة.
وتوالت المواجهات وعمليات القصف المتبادلة بين العدو والمقاومين، إلى اليوم العشرين من بدء الحرب، حين قرر العدو البدء بالتمهيد لتنفيذ "عملية الاجتياح البري"، حيث كان المجاهدون قد أذاقوا المستعمرات والمواقع العسكرية والثكنات الحدودية ما أذاقوها من جحيم الصواريخ بحيث أضحت خالية إلا من دوي انفجار القذائف. واستجاب بعض أهالي عيتا للمناشدات بترك البلدة فيما أصر البعض الآخر على البقاء، والمشاركة في صناعة النصر.
كان واضحاً أن العدو لن يكتفي بقصف المناطق الأمامية أو احتلالها، فقد تبدت نياته باستمرار العدوان، فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية التي يحققها في حال استطاع احتلال البلدة، التي تعتبر من البلدات الأساسية بالنسبة لحزب الله، فضلاً عن كبرها واتساعها، وموقعها بالنسبة لمحيط المنطقة، وأن اقتحامها، بحسب اعتقاد العدو، سيرتد سلباً على المقاومة على مستوى خسارتها لمحور عسكري وجغرافي مهم، لا بل يمكن للعدو الاستفادة منه لإحراز المزيد من التقدم خلال تنفيذ الاجتياح البري.

يوميات المواجهة والصمود في عيتا
أدركت قيادة المقاومة مدى أهمية احتلال عيتا الشعب بالنسبة للعدو، وتم اتخاذ مجموعة من الاجراءات الميدانية والتأكيد على الانتباه والحفاظ على أعلى مستوى من الجهوزية، واتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر، والاستعداد الدائم للاشتباك في أي لحظة في مختلف أماكن القرية، كما تم وضع خطط تنفيذية عملانية تضمن استمرار خطوط التواصل بين مختلف الوحدات والمجموعات العسكرية للمقاومة في تلك البقعة، وتفعيل رصد ومراقبة تعزيزات وتحركات العدو وجنوده.
تحرّك جنود العدو من سلاح المشاة باتجاه أطراف عيتا الشعب، معززة بتشكيل مدرع، وسرعان ما استهدفها المقاومون وتمكنوا من تدمير دبابتين وجرافة، فعمدت القوة المستهدفة إلى الانسحاب نحو خلة وردة بالترافق مع تغطية كثيفة من القصف المدفعي. وخلال انسحابها عمدت القوة الاسرائيلية إلى تفتيش بعض المنازل الواقعة عند أطراف البلدة وتمشيطها وخلع بعض أبواب المنازل هناك بهدف التموضع فيها. وعلى الفور قامت مجموعة من المقاومين بالإغارة على المنازل التي كان فيها جنود العدو بالأسلحة الرشاشة والصاروخية، والتحموا معهم في اشتباكات من مسافات قريبة لعدة ساعات، واضطر العدو في نهاية المطاف إلى التراجع وترك الأماكن التي تمركز فيها.
عمل جنود الاحتلال على الالتفاف من جهة ثانية لتكرار محاولة اقتحام البلدة، وقامت قوة كبيرة للعدو مؤلفة من عشرات الجنود خلال الاشتباكات، بالتسلل نحو مرتفع أبو اللبن عند أطراف القرية. فاستهدفتها مدفعية المقاومة في مكان تجمعها وطرق تسللها وأصابت القوة بشكل مباشر، وأفشلت هذه المحاولة ما اضطر جنود العدو إلى الانسحاب من المنطقة إلى داخل الحدود الفلسطينية المحتلة.
قوات الاحتلال التي فشلت ليلاً في الدخول إلى عيتا الشعب، عاودت محاولاتها التقدم فجراً إلى أطراف البلدة، ولكنها اصطدمت بمجموعات المقاومة المنتشرة في المنطقة، التي كانت التزمت برفع مستوى الجهوزية والاستعداد لمواجهة أي طارئ والتصدي لأي تقدم، وتجددت الاشتباكات من مسافات قريبة، في وقت استطاع "سلاح الدفاع الجوي" في المقاومة تعطيل قدرة المروحيات والطائرات الحربية على المشاركة في هذه المواجهات. وتمكن المقاومون من تدمير جرافة، اعترف العدو حينها بإصابة 3 جنود، احدهم جراحه بالغة. في وقت تقدم تشكيل مدرّع مؤلف من ثلاث آليات لمساندة القوة المتقدمة وسحب الإصابات التي كانت ما تزال على الأرض. ولكنها تعرضت لكمين محكم قام خلاله المجاهدون باستهداف التشكيل بصواريخ ضد الدروع ما أدى إلى تدميره بشكل كامل.
فجر اليوم الثالث من العملية البرية، بدأت قوة إسرائيلية بالتحرك فجرا في منطقة أبو اللبن ولكنها وقعت في كمين محكم نصبه المقاومون، وتم خلاله تفجير عبوة بالقوة والاشتباك بمختلف أنواع الأسلحة، ما اضطر جنود العدو للتراجع تحت غطاء مدفعي ودخاني، وتم سحب جرحاه إلى منطقة خلفية بواسطة المروحيات بعد عدة محاولات فاشلة وصعبة بسبب التصدي البطولي من قبل سلاح الدفاع الجوي. وحاولت قوة صهيونية أخرى التوغل داخل عيتا الشعب، فتصدى لها المجاهدون وتم تدمير دبابة ميركافا عند مثلث عيتا دبل، وقتل ثلاثة من أفراد طاقمها فيما جرح الرابع.
رفض العديد من نساء عيتا الشعب مغادرة البلدة، وآثرن البقاء لمساندة المجاهدين وتأمين الطعام لهم، فكان المقاومون يؤمنون الطحين والنساء يخبزنه مع ما تيسّر من طعام كن يطبخنه على نار الحطب، وينقلنه للمقاومين برغم اشتداد المعارك والقصف المستمر.
عانى جنود العدو من حالة تشتت وضياع، وانعدام كامل للوزن، حيث كانت كل محاولاتهم للتقدم إلى البلدة تبوء بالفشل، فزجت قيادة العدو بالمزيد من الجنود، وعملت على تطويق عيتا الشعب من كل النواحي ظناً منها أن ذلك يسمح لها بالإطباق على البلدة والقضاء على المقاومين، ولكن ما حصل أن مجموعة مشاة تابعة للعدو كانت تسللت عند أطراف جبل أبو الطويل، فتصدت لها مجموعة من المقاومة، وقامت بعملية تمويه واستدراج ما أدى إلى دخول قوة إسرائيلية ثانية إلى مكان المواجهة، ما أسفر عن إيقاع جنود العدو في الخطأ، واستهدفوا بنيرانهم القوة الإسرائيلية الأولى، ظناً منهم أنها تابعة للمقاومة.
في اليوم الخامس من العملية البرية، طارد المقاومون قوة من جنود العدو، فاضطروا إلى الاختباء في كاراج داخل قرية دبل، فعمد المجاهدون إلى قصف الكاراج بشكل دقيق بواسطة صواريخ مضادة للدروع، ما أدى إلى مقتل تسعة جنود، وإصابة أكثر من عشرة آخرين بجراح. وفي اليوم التالي هاجم المقاومون قوة إسرائيلية حاولت التقدم نحو تلة "أبو الطويل" غرب عيتا الشعب ودمروا جرافة ودبابة ميركافا موقعين أفراد طاقمهما بين قتيل وجريح. وحاولت دبابة ميركافا أخرى سحب الآليتين المدمرتين من أرض الميدان فرماها المجاهدون بصاروخ مضاد للدروع أدى إلى تدميرها.
أسفرت المواجهات البطولية على محور عيتا الشعب عن مقتل خمسة وثلاثين جندياً وجرح أكثر من خمسة وستين آخرين، فضلاً عن تدمير خمس دبابات ميركافا B2، وثلاث آليات من طراز هامر وثلاث ناقلات، وخمس جرافات D9. وجاء اليوم الأخير من العدوان، وحتى آخر لحظة من قرار "وقف العمليات العسكرية" كانت عيتا الشعب ما زالت تقاوم، وكانت الصواريخ ما زالت تنطلق من محيطها باتجاه المستعمرات الصهيونية، في حين تكبّل العدو على مداخلها، على الرغم من أن القصف الجوي والبري لم يترك جداراً قائماً في القرية.

وبعد ثلاثة أعوام على الحرب الإسرائيلية لا يزال رجال عيتا وشبابها ونسوتها يستذكرون حكايات البطولة، يخزنوها في ذاكرتهم ليرووا للأجيال المقبلة تفاصيل ملحمة اسمها "عيتا الشعب".
محمد الحسيني

2009-08-15