ارشيف من :ترجمات ودراسات
الجيش الإسرائيلي يعيد بناء أساطيره القيمية بعد تجاوز جرائمه كل الحدود
صحيفة "السفير" - حلمي موسى
احتدم السجال في إسرائيل حول القضايا التي قاد افتضاحها إلى تجميد أو تسريح أو إقالة عدد من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي. وفي الأسابيع الأخيرة برزت على سبيل المثال قضايا كل من الجنرالات تشيكو تامير، عماد فارس وإسرائيل دانييلي. ورغم اختلاف ظروف كل واحدة من هذه القضايا إلا أنها تجتمع حول سوء استخدام مركبات عسكرية والسماح لأفراد من العائلة بقيادتها خلافاً للتعليمات. ومن المؤكد أن الجيش بتركيزه على هذه المسألة يحاول بناء أسطورة جديدة تضاف للأساطير السائدة في الجيش والمجتمع الإسرائيلي.
ومن المعروف أن الجيش الإسرائيلي الذي نفذ إحدى أكبر عمليات السلب في التاريخ بطرد شعب من أرضه والاستيلاء عليها حاول طوال السنين تبرير ذلك بمبررات أخلاقية مصطنعة. وأكد طوال السنين على أنه لم يمارس عمليات التطهير العرقي والطرد الجماعي وأن الفلسطينيين تركوا الأرض بملء إرادتهم لتحسين فرصة الجيوش العربية في وأد الدولة اليهودية. بل أن الجيش في مواجهة المذابح المتنقلة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس طوّر مع مرور الأيام أسطورة «طهارة السلاح»، والتي شدّدت على أن قواعد عمل الجيش الإسرائيلي كانت أشد أخلاقية من أي جيش آخر.
ومن البديهي أن أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر» كانت بحاجة إلى جملة أساطير مساندة عززت مكانة هذا الجيش ليس فقط لدى محبي إسرائيل والمعجبين بها في العالم، وإنما أساساً في صفوف المجتمع الإسرائيلي. فقد أسهمت هذه الأساطير في جعل الجيش ليس فقط قاطرة تطور المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي وإنما أيضاً بوتقة صهر اليهود القادمين من شتى بقاع الأرض. وهكذا تحوّل الجيش إلى مركز الفعل والتحدي وغدت وحداته في سباق مع الزمن لتطوير قدرات وأساطير خاصة بها لاجتذاب الشباب اليهودي إليها.
والواقع أن هذه الحال بلغت ذروتها في أعقاب حرب حزيران 1967 عندما صارت الأسطورة «واقعاً» ملموساً يمشي على الأرض. وغدا الجيش وجنرالاته عنوان كل صواب وشارة كل قدرة وموضع كل تقدير. وقد تحطّمت هذه الصورة في حرب تشرين العام 1973 عندما تبين أن الجيش وجنرالاته ليسوا على درجة الصواب والقدرة المتخيلين ولا ينبغي أن يحظوا بتقدير مبالغ فيه. واحتاج الأمر سنوات طوال قبل أن يحاول الجيش في حرب لبنان الأولى تحسين صورته واستعادة مكانته. ومعلوم أن النتيجة النهائية لحرب لبنان الأولى خصوصاً الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد في العام 2000 كانت فشلا بامتياز.
وخلال تلك الفترة أسهمت عوامل تصدع الثقة بالجيش الإسرائيلي من ناحية والتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على إسرائيل ومحيطها في تحول اهتمامات وتحديات الشباب الإسرائيلي. وبدلاً من شعار «المتفوقون للطيران والجميلات للطيارين» نشأ شعار «المتفوقون للتكنولوجيا» أو «لإدارة الأعمال» وطبعاً «الجميلات للأغنياء». وتراجعت بأشكال مختلفة مكانة الجيش الإسرائيلي داخلياً بحيث بات يتعرض في كل عام لحملة محاسبة سنوية قبل إقرار حصته من الميزانية العامة.
غير أن المحاسبة لم تقتصر على وزارة المالية التي كانت نقاشاتها مع الجيش تدور في الغالب في الغرف المغلقة بل خرجت إلى صفحات الجرائد وتقارير وسائل الإعلام. وذات مرة كان التركيز على الامتيازات التي يحظى بها ضباط الجيش أثناء الخدمة. وبعد ذلك جاء دور شروط التقاعد من الجيش وامتيازاته. بل أنه في نطاق زيادة نجاعة الجيش بعد أن تم تقييد ميزانيته ومنع انفلات عقالها جرى تسريح الكثير من المراتب. ولكن الجيش ظل في صراع مع الاقتصاد المدني حول اجتذاب الكفاءات فكان لا بد له من توفير الامتيازات. وقاد هذا الوضع إلى تعرضه للمزيد والمزيد من الانتقادات.
ولهذا السبب، ليس صدفة أنه بعد أن تردت الثقة بالجيش إلى حد كبير جراء نتائج حرب لبنان الثانية، صار المجتمع الإسرائيلي أقل تسامحاً حيال «تجاوزات» أفراد الجيش وقادته. وفي ظل الأزمة الاقتصادية يغدو انعدام التسامح أكبر إزاء التجاوزات الاستهلاكية. ولهذا السبب فإن قيادة الجيش الحالية تحاول بناء أسطورة جديدة أساسها أن الجيش يتشدد في المحافظة على المال العام وأنه لا أساس البتة للاتهامات الموجهة إلى قادته بأنهم «مترفون» على حساب الجمهور وبشكل غير مبرر.
إن رئيس الأركان وأعضاء القيادة العليا في الجيش يبحثون عن إنجازات قيمية أمام الجمهور الإسرائيلي لأسباب مفهومة ومعروفة ولأسباب أخرى قد تبقى غامضة. وهم على استعداد للتعرض لاتهامات من جانب البعض بأنهم يتخلون عن «ضباط متفوقين» فقط لأنهم كذبوا على قادتهم. ومن المنطقي فهم بعض مبررات هذه الاتهامات والتي تستند إلى واقع أن الكذب في الجيش الإسرائيلي بات سياسة معلنة في كل ما يتعلق بتعاطي الجنود والضباط مع الفلسطينيين والعرب. ولكن الكذب، خاصة عندما يكون في العلاقة بين الضابط والجيش وفي شأن داخلي، يغدو محرماً أشد التحريم.
وقد يكون المعلق في «هآرتس» جدعون ليفي أوضح من أشار إلى التناقض الحاد بين تحريم الكذب في الهوامش وتحليل الإقدام عليه في المتون وانطلاق ذلك من واقع إسرائيل الحالي. وكان معلقون إسرائيليون قد أشاروا إلى أن الكذب في الجيش الإسرائيلي، سواء في ما يتعلق بالعرب أم حتى بالشأن الداخلي، كان واسع النطاق وقتما كان الجنرالات أقرب إلى القديسين في نظر جمهورهم. ومن الجائز أن الجيش الإسرائيلي أحوج اليوم من أي وقت مضى للحديث عن القيم وطهارة السلاح بعدما تجاوزت جرائمه في حربي لبنان وغزة كل حدود.