ارشيف من :أخبار عالمية

الجرائم ضد الانسانية والسقوط الاخلاقي لمؤسسات "العدالة الدولية"

الجرائم ضد الانسانية والسقوط الاخلاقي لمؤسسات "العدالة الدولية"
كتب جورج حداد
في 20 اب الجاري افرجت الحكومة الاسكتلندية عن المواطن الليبي عبدالباسط المقرحي، الذي كان يقضي حكما بالسجن المؤبد، بتهمة المسؤولية عن تفجير طائرة ركاب اميركية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية في نهاية 1988، والتي ذهب ضحيتها 270 شخصا. وأعلنت سكوتلندا انها افرجت عن المقرحي لاسباب "انسانية"، حيث انه يعاني من مرض السرطان في مرحلة متقدمة. وقبل الافراج عنه اعرب المقرحي عن تعاطفه مع اهالي ضحايا الطائرة، واسقط حقه في الاستئناف الذي كان يرجو ان يظهر براءته. وقد استقبل المقرحي في طرابلس استقبال الابطال، وحضر الاستقبال شخصيا العقيد معمر القذافي زعيم "الثورة الليبية".

وقد اثار الافراج عن المقرحي، وخصوصا طريقة استقباله في ليبيا، استياء الحكومتين "الدمقراطيتين" الاميركية والبريطانية. وشنت حملة اعلامية صغيرة، بالقياس الى الحملات السابقة، على ليبيا والقذافي، بالرغم من "شهر العسل" الطويل في العلاقات الليبية ـ الغربية، بعد اعلان نظام القذافي عن الخضوع المكشوف لمعايير السياسة الدولية المرضي عنها غربيا. ومعلوم ان ليبيا كانت قد دفعت تعويضات كبيرة جدا لاهالي ضحايا الطائرة المنكوبة.

وقد ازعجت هذه الحملة طبعا العقيد القذافي، الذي اعرب عن استيائه، وذكـّر الغرب انه لدى الافراج عن الطاقم الطبي البلغاري الذي كان متهما بالمشاركة في التسبب في اصابة 400 طفل ليبي بمرض الايدز، تم استقبال افراد ذلك الطاقم استقبال الابطال في بلغاريا، وتم اصدار العفو عنهم قبل نزولهم سلم الطائرة، مع انه كان الاتفاق ان يتم نقلهم الى بلغاريا لقضاء العقوبة التي حكم عليهم بها القضاء الليبي.

ان كل قصة ضحايا طائرة لوكربي وقصة اصابة الاطفال الليبيين بمرض الايدز، قد دخلتا بامتياز في مسرحيات التسييس المبتذل والضغط السياسي على النظام الليبي، لاجل اجباره على السير المكشوف في ركاب السياسة الغربية. وما يجري الان ايضا لا يخرج عن نطاق "المسرح السياسي" الذي تديره الدبلوماسية الاميركية من امام ومن وراء الستار.

وهذا ما يدعو الى طرح السؤال الرئيسي التالي: وما هو دور "الشرعية الدولية" ومؤسسات "العدالة الدولية"، من الامم المتحدة ومجلس الامن ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، المنوط بها النظر في الجرائم الدولية الكبرى، ومنها بالاخص "الجرائم ضد الانسانية".

لنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، ثلاث جرائم يظهر فيها النظام الليبي ذاته بدور الجاني او الضحية:

1ـ جريمة اختطاف وتغييب الامام موسى الصدر في 1978. فقد اثبتت المجريات التاريخية ان الامام موسى الصدر لم يكن وحسب قيمة دينية واجتماعية وسياسية لبنانية وعربية كبرى، بل وكان بذلك ضمانة كبرى لوقف انزلاق لبنان في اتون الحرب الاهلية، وللوقوف كالطود الشامخ في وجه العدوان الاسرائيلي على لبنان. اي ان اختطافه وتغييبه كان جريمة ضد شخصية انسانية بارزة، وكان ـ اكثر ـ جريمة كبرى ضد الشعب اللبناني وضد لبنان كدولة مستقلة من الدول المؤسسة لهيئة الامم المتحدة. وادى اختطافه الى تسهيل كل المآسي الكبرى التي تعرض لها لبنان بعد ذلك. اي بكلمات اخرى: ان هذا الاختطاف تنطبق عليه تماما كل مواصفات الجريمة الكبرى ضد الانسانية.

لقد تم في سنة 2005 اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري، مما هدد استقرار وسيادة لبنان. فتحركت آلية "العدالة الدولية" ووضعت يدها على هذه القضية وتشكلت "المحكمة الدولية" الخاصة بالنظر بجريمة اغتيال المرحوم رفيق الحريري وما رافقها.

فلماذا لم تتحرك "العدالة الدولية" الى الان للنظر في جريمة اختطاف الامام موسى الصدر، التي هي ايضا جريمة "دولية" بامتياز؟؟

2ـ جريمة تفجير طائرة لوكربي. لم تكن هذه الجريمة هي الاولى على صعيد تفجير الطائرات المدنية. فقبلها بفترة وجيزة كان قد تم تفجير طائرة ركاب مدنية ايرانية فوق الخليج، ولم تطرف عين لـ"العدالة الدولية". وغيرها كثير. وقد اعطيت جريمة تفجير طائرة لوكربي اهمية كبرى لانها اميركية، وتفجرت في الاجواء البريطانية. وكأنما الناس، حتى في حضرة الموت، هم طبقات ودرجات في سلم القواميس العنصرية. ولنجار العنصرية الانكلو ـ ساكسونية في منطقها، ولنتوقف عند تفجير طائرة لوكربي. ان تفجير هذه الطائرة، كغيرها من الطائرات المدنية عموما، قد استخدم كسلاح لتبرير الهجمة العنصرية ضد الشعوب العربية والاسلامية عامة، وضد حركات التحرير خاصة، بحجة "مكافحة الارهاب". ومنذ البدء اتهمت ايران وسوريا وليبيا والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة، بتفجير طائرة لوكربي. ثم رسا "البازار السياسي" على ليبيا، لغاية في نفس "يعقوب" الاميركي. ثم جرت المساومة فرفع النظام الليبي "الرايات البيضاء" ورفع عن "اللائحة السوداء".
 
وحتى الامس القريب كتب الصحفي البريطاني المعروف "صديق العرب" روبرت فيسك يقول ان سر تفجير طائرة لوكربي يكمن ليس في طرابلس، بل في طهران ودمشق وبيروت. ونحن يحق لنا ان نفترض ان روبرت فيسك هو على حق او على غير حق. والسؤال هو: لماذا لا تضع مؤسسات "العدالة الدولية" ـ التي هي لا ايرانية ولا سورية ولا لبنانية ولا فلسطينية ـ يدها على قضية تفجير طائرة لوكربي؟ لقد صرح بالامس بطل مجزرة قانا والحائز على جائزة نوبل للسلام شمعون بيريز بأن حزب الله يمتلك 80 الف صاروخ بالتمام والكمال (لربما هو حائز، مع جائزة نوبل للسلام، على ايصالات استلام الصواريخ ايضا)، وان هذه الصواريخ موجهة الى اسرائيل، وانه حتى لو انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا وبلدة الغجر، فإن حزب الله لن يعدم وسيلة او حجة لشن الحرب على اسرائيل. ونحن يحق لنا ان نصدق شمعون بيريز بأنه يوجد 80 الف صاروخ بيد حزب الله ستطال عند اللزوم كل سنتيمتر مربع في اسرائيل، بدءا من مقر شمعون بيريز ذاته. ويحق لنا ان لا نصدقه وان نعتقد ان اسرائيل تحضر عدوانا كاسحا ضد الشعب اللبناني المظلوم، بحجة تدمير 80 الف قاعدة صاروخية في الاراضي اللبنانية. فاذا كانت مؤسسات "العدالة الدولية" لا تحرك ساكنا لاجل ضحايا لوكربي الانغلو ـ ساكسون الممتازين والمميزين، فهل يمكن للشعب اللبناني المظلوم، ولجميع الشعوب العربية والاسلامية المظلومة، ان تأمل في ان تتحرك "العدالة الدولية" لرد التهديدات الاسرائيلية المبطنة، على لسان بيريز، ضد لبنان؟

3 ـ قبل اكثر من عشر سنوات انفجرت في ليبيا فضيحة مجلجلة هي جريمة اصابة 400 طفل ليبي بمرض الايدز ووفاة اكثر من 50 منهم، وتم اعتقال عدد من افراد الطاقم الطبي البلغاري وطبيب فلسطيني بتهمة التسبب في اصابة هؤلاء الاطفال الابرياء. ويومها قامت قيامة الاعلام الغربي وشنت حملة سياسية شعواء ضد ليبيا، ليس لاجل الاطفال الليبيين، بل بداعي تهديد "حقوق الانسان" والاعتقال غير المشروع للمواطنين البلغار. ومن "اقوى" الحجج التي سوقت حينذاك، ان سبب انتشار العدوى بين الاطفال هو المستوى المتدني للنظافة وشروط الوقاية الصحية في المستشفيات الليبية. ولكنه من الملاحظ ان نشر المرض تم انطلاقا من احد المستشفيات بالذات. فلو كان نقص الوقاية الصحية والنظافة هو السبب المباشر، لانتشرت امراض اخرى ايضا، وفي اكثر من مستشفى وليس فقط في مستشفى بعينه. وهذا يدل ان "خلية" تسريب العدوى كانت موجودة في ذلك المستشفى بالذات، وهي قد عملت مدة سنوات، كما ان "اختصاصها" كان مقتصرا على مرض الايدز بالذات وليس غيره. ولما انفضح الامر وتم اعتقال من اعتقل، وسواء كانوا شركاء او لا في تلك "الخلية" الاجرامية، فإن انتشار المرض توقف فجأة، مما يدل على ان "الخلية" الاجرامية اجبرت او تلقت الاوامر بأن "تنام" من جديد.

وهذا يؤكد الفعل الاجرامي، وان وراءه تنظيما "طبيا" دقيقا للغاية ومتوحشا واجراميا في الوقت ذاته. وقد دخلت تلك القضية الكبرى في "البازار السياسي" بين ليبيا و"الشرعية الدولية"، وتمخض "البازار" اخيرا عن الافراج عن المعتقلين البلغاريين والطبيب الفلسطيني. وبعد ذلك اسدل الستار تماما عن جريمة القتل البطيء لـ 400 طفل ليبي بالايدز. وسواء كان المتهمون البلغار حينذاك ابرياء ام غير ابرياء، أليس قتل هؤلاء الاطفال جريمة كبرى ضد الانسانية؟ وأليس التغاضي عن قتلهم هو الذي يفسح المجال لارتكاب جرائم مماثلة، تارة بواسطة مرض الجمرة الخبيثة، وتارة بواسطة مرض انفلونزا الطيور، وتارة باسم مرض انفلونزا الخنازير وهلمجرا؟

فلماذا ـ وبعد الافراج عن الطاقم الطبي البلغاري ـ لم تتحرك مؤسسات "العدالة الدولية" لوضع يدها على جريمة اغتيال 400 طفل ليبي ابرياء، ضعفاء ومظلومين، بصرف النظر عن طبيعة النظام الليبي، وعما اذا كان مرضيا عنه او مغضوباعليه من قبل الدول الغربية؟

اننا ندرك تماما مدى وحشية وانحطاط الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية والحكومات والجيوش والاحزاب والمنظمات التي تتبعها.

ولكنه اصبح يبدو بوضوح ان مؤسسات "العدالة الدولية"، التي يسيطر عليها الاميركيون والطغمة المالية اليهودية العالمية، قد بلغت من السقوط الاخلاقي والحقوقي والسياسي والانساني انها اصبحت لا اكثر من "شهود زور" و"مماسح قاذورات" لدى مراكز القرارات الدولية، الامبريالية ـ الصهيونية.
2009-08-26