ارشيف من :آراء وتحليلات
’المستقبل’.. ومواجهة الحقيقة والوشاة
ليس كل السياسيين من فريق 14 آذار مرتاحاً الى عودة الرئيس سعد الحريري من "منفاه" في الرياض الى لبنان. يمكنك ان تقرأ عدم الارتياح هذا من خلال ترتيب الأولويات: فلقد ركز غير المرتاحين خلال أزمة احتجازه على عنوان "معالجة اسباب الاستقالة" على حساب مطلب عودة الحريري. منطقياً، رتّب هؤلاء الأمور وفق التالي: ما دامت الاسباب لم تعالج، لا مبرر لعودة الحريري، او هي ليست أولوية تزاحم الأولوية الاولى.
لذلك، من غير المستغرب ان يغيب مطلب عودة الحريري عن هؤلاء، فلا يهمّ اذا كان سيعود من الوضع "الإكراهي" الذي خضع له في الرياض أو انه سيبقى فيه. المهم هو جدول الاعمال السياسي الذي جعلوا فيه لبنان ضمن جدول أعمال أوسع: الوضع الاقليمي. بالنسبة اليهم، لم يعد "لبنان اولاً" مطروحاً، بل أضحى لبنان بنداً في خدمة الأولويات السعودية، ولا مانع من مواجهة ايران عبر لبنان، بل ولا مانع من تعريض استقرار لبنان لهزة حكومية وسياسية ما دام ان ذلك يفيد السعودية في هذه المواجهة التائهة.
يقف سمير جعجع رئيس حزب "القوات" في مقدمة هؤلاء، ذلك انه أغمض عينيه عن "رفيق الدرب" وعن وضعِه في إقامة جبرية تسيء الى كرامته والى كرامة لبنان وسيادته. جعجع طار الى الرياض قبل الحريري، ومارس - كما تذكر تقارير- مهنة الوشاية السياسية التي يتقنها العديد من السياسيين وصولاً الى أهدافهم. لم يتفقد جعجع الحريري إلا عندما تبين ان الاخير سيغادر الرياض الى باريس ليغرد قائلا: "شيخ سعد ناطرينك"! هكذا فقط ؟ّ! تغيبَ جعجع ومن يدور في فلكه عن الاجماع على مطلب عودة الحريري أولاً ليقرر لبنان شؤونه بنفسه وعلى أرضه، ولم يتجرأ ان يوجه اية ملاحظة او نقد لأسلوب التعامل السعودي مع رئيس وزراء لبنان. فلقد رضي رئيس "القوات" وضع لبنان بين أيدي رُعاته الجدد في المملكة السعودية الذين يزودونه بذخيرة المال ويطلقون عليه لقب "حارس الجمهورية"، ليكون رأس حربتهم في مواجهة حزب الله. قبل ذلك استبشر رئيس "القوات" بأن لبنان "دخل مرحلة سياسية عنوانها الكلمة التي القاها رئيس الحكومة" في بيان الاستقالة، معتبراً ان "المهادنة لم تعد تثمر" مع الفريق الآخر. ولا حاجة الى الكثير من الاجتهاد للاستنتاج أن جعجع يريد دفع الحريري دفعاً الى مواجهة غير واضحة المعالم والعواقب مع الشريك اللبناني الآخر، وكل ذلك من رصيد الحريري وتيار المستقبل والبلد ايضاً.
بالمناسبة، جعجع لم ينظر يوماً بإيجابية الى رفيق الحريري ومشروعه السياسي والاقتصادي، بل انه رأى في اغتياله دليل ادانة لسوريا وحسب، وهذا كل ما يهمّه في الموضوع. وهو توددَ الى سعد الحريري ليكون سلّماً له الى الرئاسة الاولى والى أهداف أخرى. لطالما تفاخر "الحكيم" (لقب يطلقه انصار جعجع عليه لأنه كان يدرس الطب، اكثر مما هو يفيد الحكمة) بأن الإنجاز الذي تحقق بعد عام 2005 يتمثل في تبني "المستقبل" ممن يُحسب على الصف المسلم خيارات "الجبهة اللبنانية" (التي قادها حزب الكتائب في فترة الحرب الأهلية) في النظرة الى سوريا والمقاومة ضد اسرائيل، اي أصبح "المستقبل" - من وجهة نظره- في موقع ما كان يوصف "اليمين المسيحي"، وهذا الإنجاز له صلة بالبرنامج الايديولوجي الذي تسير عليه "القوات" ولم تحد عنه الى الآن. "عروبة لبنان" (ببعدها السعودي القومجيّ) مجرد غلاف جديد يتلطى "القواتيون" خلفه لإطلاق النار على المقاومة وعلى ما تمثله سوريا من موقع ٍمواجه للهيمنة الأميركية. نظرتهم الى "اسرائيل" لم يطرأ عليها تغيير جوهري، فالسلام معها أمر واقعي، فضلاً عن انه يعيد الاعتبار الى علاقاتهم التاريخية معها بمفعول رجعي.
تقاربُ "القوات" والحكم السعودي بمنطلقاته الراهنة ينسجم - من دون اي مصادفة - مع التقارب بين السعودية و"اسرائيل"، وآخر تجلياته فتح موقع "إيلاف" السعودي صفحاته لرئيس أركان جيش الاحتلال غادي آيزنكوت ليقدم مطالعة مطولة حول "العدو المشترك" ايران وعن التحالف الذي يتم سراً وعلناً بين "الاعتدال العربي" والكيان الصهيوني، وهو تحالف قام لسنوات طويلة منذ ما قبل الخمسينيات من القرن الماضي على أساس نقض اي مشروع وحدوي او مقاوم للوجود الصهيوني على ارض فلسطين. وما كُشف عن ارتباطات أركان هذا التحالف مع الكيان قبيل قيامه وقبل حربي 1967 و1973 وما تخللها من كشف أسرار الخطط العسكرية العربية، قد يكون رأس جبل الجليد وحسب.
هذه لحظةُ حقيقة لكي يدرك بعضهم ان لا مصلحة لهم في التحالف مع "القوات" التي تريدهم لنفسها ولأيديولوجيتها اليمينية وليس لأجل مشروع وطني مشترك، كما ليدركوا ان السير على غير هدى وراء القاطرة السعودية بقيادتها الحالية سيجرّهم وسيجرّ لبنان الى مخاطر جسيمة.