ارشيف من :آراء وتحليلات
الكرد بين فكي كماشة أميركية روسية
سركيس أبوزيد
فقد الكرد مجددا فرصة الانفصال وإنشاء دولة خاصة بهم، لأنهم ربطوا مصيرهم مرة أخرى بسياسات أميركا التي لم تراعِ حلمهم التاريخي بإقامة دولة كردستان. فقد صوت أكثر من 90 في المئة من الناخبين الكرد في شمال العراق بـ"نعم" في الاستفتاء على الانفصال، غير أن هذا الاستفتاء، وبدلا من أن يقربهم خطوة من تحقيق حلمهم بإقامة دولتهم، أعادهم أعوامًا إلى الوراء وانقلب وبالا عليهم، وكاد يحوّل حلمهم إلى كابوس.
تركيا أزعجها الإستفتاء وشكل منعطفا خطيرا بالنسبة إليها، حيث كشف عن عمق مخاوفها من التهديدات المحيطة بها من جهة حدودها الجنوبية، إذ إنه تزامن مع سعي كرد سوريا لتثبيت نوع من حكم ذاتي موسع. الذراع السوري لحزب الاتحاد الديمقراطي "وحدات حماية الشعب الكردية" سيطروا على نحو ثلثي الحدود التركية السورية الممتدة بطول 900 كلم. ولھذا السبب تسعى أنقرة إلى القضاء على محاولات قيام كيان كردي في شمال سوريا على حدودھا الجنوبية. كما أن الولايات المتحدة التي اعتقد أكراد العراق أنها حليفتهم وبنوا حساباتهم على أساس ذلك، أدارت لهم ظهرها وسلمتهم الى بغداد.
في الواقع، لقد استخلص الكرد العبر من كل ما حدث. لذا يقف إقليم كردستان العراق على أعتاب مراجعة شاملة لعلاقته مع الولايات المتحدة بعد "تخاذل" إدارة ترامب عن دعمهم . فثمة من يقول أن هناك لعبة أكبر تلعبها أميركا على مستوى العراق استدعت منها التضحية بالأحلام الكردية العراقية. ومن المحتمل أن هناك شيئا ما يطبخ، وليس الحذر مطلوبا الآن من الكرد فقط، بل من رئيس الوزراء العراقي ايضا.
فالحكومة العراقية هي أول المستفيدين المباشرين من "الخيانة " الأميركية لآمال الكرد. فقد تمكنت من استعادة السيطرة على أهم الأراضي وأهم حقول النفط في كركوك، وبالتالي الحصول على مصدر لتجديد وتعزيز الميزانية. كما ألحقت ضربة كبيرة بالطموحات الانفصالية الكردية. و سيكون الكرد في موقف تفاوضي ضعيف، ومن الصعب جدا عليهم معارضة ما تريده بغداد منهم.
أما البارازاني فقد اعتبر أن "خيانة قومية عظمى" حصلت، وأدت إلى فقدان قواته السيطرة على أراض متنازع عليها مع بغداد، وهذه الخيانة أسهمت في دخول القوات الاتحادية إلى تلك المناطق، في إشارة الى الاتفاق السري بين بغداد ومسؤولين من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، المنافس التاريخي للحزب الديمقراطي الكردستاني. وانتقد الولايات المتحدة على تراجعھا عن دعم استفتاء انفصال الأكراد في إقليم كردستان، لا بل دعمت عمليا حكومة المركز في بغداد، المدعومة أصلا من إيران.
وبدا واضحا أن واشنطن حاولت إرسال رسالة إلى الكرد العراقيين بتحميلهم مسؤولية ما جرى من تحرك على الأرض لانهم لم يسمعوا مطالبتها لهم بعدم إجراء الاستفتاء، من منطلق أن أوان رسم خرائط المنطقة لم يحن بعد.
كما أن رغبة واشنطن في معاقبة الأكراد على عصيان أوامرھا، أدت إلى إلحاق ھزيمة استراتيجية بھا قبل غيرھا. الھزيمة لا تتمثل فقط في خيبة أمل العالم من الضمانات الأميركية ومدى وثوقھا، ولا حتى في حقيقة أن الأكراد يتھمون الولايات المتحدة بخيانة آمالھم القومية، وھذه ليست المرة الأولى. لقد خسر الأميركيون كردستان العراق كرأس جسر للتحرك ضد إيران، لا بل إن هزيمة الولايات المتحدة كانت انتصارا لطهران، وكان الجانب الإيراني بشكل عام أحد المستفيدين الرئيسيين من هذه الأزمة.
اليوم يقف البارزاني وحيدا، لكنه لم ينتهِ بعد. الأحزاب تسابقت للإيقاع به وهو لم يُقل ولم يستقل، إنما اختار التنحي في نهاية مدة التمديد لرئاسته. ولو شكليا، تعتبر هذه الخطوة سابقة في العراق، ولكن مخطئ من يظن أن البارزاني بتنحيه عن رئاسة كردستان العراق، لم يعد يمسك بزمام الأمور داخل الإقليم . فهو لا يزال رئيس الحزب التاريخي للأكراد وسيبقى رمزا، و مرجعا سياسيا، كما أنه يمتلك علاقات وأموال وتنظيمات حزبية واسعة، وقد يعود الى السلطة، ليس بشخصه ولكن بحزبه.
مخطئ من يعتبر أن مشروعا انفصاليا له حلفاؤه في واشنطن والرياض وإسرائيل يمكن أن ينتھي، ولو بعد خسارته أراضي مھمة وتلقيه صفعة سياسية موجعة. كل شيء مفتوح على التطورات كما إن أربيل تبقى عمليا على الصعيد السياسي والنفوذ في يد "آل البارزاني".
هذا عن كرد العراق، ولكن، ماذا عن كرد سوريا؟
في المقلب السوري نجد أن العلاقات الروسية - الكردية كانت جيدة، بل ممتازة، لكنھا انتكست جراء تراكم الأحداث، لا سيما المعارك التي حصلت بين الجيش السوري من جھة، ووحدات الحماية من جھة ثانية في مدينة الحسكة العام الماضي. ھذه الانتكاسة تم تجاوزھا بعد زيارة سيبان حمو، القائد العام للوحدات الى موسكو قبل قرابة الشهرين، لكن العلاقات لم تعد بعد الى حالة الدفء التي كانت عليها.
كما ان الإشارات الروسية المتناقضة هي وسائل ضغط تمارسها موسكو على القيادات الكردية لدفعها الى حسم خيارها والابتعاد عن الرهان على الحصان الأميركي. فاللعب الكردي على الحبلين الروسي والأميركي بما يناسب الأجندة الكردية، لم يكن خافيا لأحد، وسط تنامي حالة من الجدل في الأوساط الكردية حول الخيارات الاستراتيجية وطبيعة التحالفات التي يمكن أن تحمي هذه الخيارات، مع التشديد على أن حالة الازدواجية بين روسيا وأميركا لا يمكن أن تستمر، لأن المعادلات التي ستحكم مرحلة ما بعد "داعش" ستكون مختلفة عن المعادلات التي قامت في زمن محاربته. الحذر الكردي يتعاظم خاصة ان جرح كركوك ما زال طريا، والخوف يكبر من أن يتكرر في منبج أو عفرين أو مناطق أخرى.. الكرد بين فكي كماشة اميركية روسية... فماذا سيختارون؟