ارشيف من :آراء وتحليلات
مصر بين طريقين
إيهاب شوقي- كاتب عربي مصري
"إن الذين يقاتلون يَحِقّ لهم أن يأملوا في النصر، أما الذين لا يقاتلون فلا ينتظرون شيئاً سوى القتل"- جمال عبد الناصر
هذه المقولة التي تتوفر لها المصداقية بفضل تجربتها مرارا وايضا بفضل مصداقية قائلها والذي ظل حتى اخر لحظات حياته مقاتلا، تستدعي اعادة الاعتبار والشرح والاستلهام ويجدر بها ان تعلق على لافتات كبرى في شوارع مصر وخاصة مع الاحداث الاخيرة.
لماذا استدعاء المقولة ولماذا مصر؟ هو ما سنحاول ايضاحه في السطور القادمة:
مجزرة بحر البقر والتي نتجت عن قصف اسرائيلي غاشم بطائرات الفانتوم لمدرسة ابتدائية مصرية بمحافظة الشرقية، نتج عنها وفاة 30 طفلا، وهذا الحادث الاخير نتج عنه وفاة 305 أشخاص وفقا للبيانات الرسمية بينهم 27 طفلا.
اي مأساة تلك التي عاشتها مصر في سيناء وفي عصر السلام المزعوم مع العدو الصهيوني؟!
ايضا عدد شهداء مصر في حروبها مع العدو الاسرائيلي منذ 48 وحتى 73 ليس محددا بدقة ولم تخرج ارقام رسمية به ولكنه وفقا للتقديرات المعتبرة يصل الى 100 ألف شهيد يزيد او يقل قليلا عن الرقم التقديري.
بينما يتراوح عدد ضحايا حوادث الطرق في مصر بين 25 و 27 الف ضحية في العام الواحد!
وهذه الضحايا غير ضحايا السيول وانهيار الابنية واحتراق القطارات ووفيات الاهمال الطبي ونقص الادوية والمستلزمات وضحايا امراض التلوث والفقر ترتفع بالاعداد لاضعاف اضعاف ضحايا شرف الاستشهاد في معارك الحق والكرامة مع الاعداء الحقيقيين للامة وللانسانية.
ان ضحايا الحروب -والتي لا نستطيع ان نقول اننا دعاة حروب- دفعوا حياتهم ثمنا للعزة والكرامة ولعدم الاستسلام للابتزاز وتشويه الهوية ولرفض التخيير بين السلة والذلة، وقد اتبعت مصر في حروبها شعار "هيهات منا الذلة"، الا ان المفارقات المؤلمة جعلت مصر تدفع ثمنا باهظا من ارواح جنودها ومدنييها بعد ان استكانت ومالت الى الذلة لتفاجأ بأن السلة قد اشتد عودها وايلامها في خاصرتها!
ان لم تستفق مصر بعد المجزرة الاخيرة والتي تفقد اي سلطة شرعيتها واي دولة مقوماتها، فالقادم هو الأسوأ بامتياز.
ان متابعة ما تبع المجزرة الاخيرة من خطاب للسلطة وللاعلام يشي بأن التغيير لم يحدث، بل وربما لن يحدث عبر هذه النخب الاعلامية والامنية وعبر السلطة بخياراتها التي تصرّ عليها.
ان مجرد اعلان مصر بأنها تحارب الارهاب وحدها لهو فقدان لأهم سلاح في المعركة وهو الاصطفاف، ناهيك عن انه خطاب مجاف للواقع وللحقيقة، كما يشي برفض او على الاقل بالتلكؤ او الخوف من الاصطفاف مع قوى المقاومة الحقيقية التي تحارب الارهاب بمصداقية والوحيدة التي حققت نصرا عليه، ويشي ايضا باستمرار توجيه البوصلة نحو الغرب ومساعداته وبرفض الاعتراف بمن يقف حقيقة وراء الارهاب.
ان اي حرب تعتمد على اضلاع متعددة ابرزها ثلاثة.. أمني وعسكري وسياسي وضلع فكري وايدلوجي.
وهناك ملاحظات متعددة على الاضلاع الثلاثة في مصر:
فالضلع الأمني والعسكري محفوف بنقص في الكفاءة قد يكون مصدره عدم التركيز الدقيق على منبع الارهاب وعناصره والبيئة الحاضنة له، ناهيك عن قيود كامب ديفيد وما تمثله من معوقات فعلية على الارض، بالاضافة لنوع الحرب غير المتوازية مع تنظيمات عصابية تحتاج لتشكيلات وقوى اخرى غير القوى النظامية المعتادة في الجيوش ولا سيما في طبيعة خاصة مثل طبوغرافيا سيناء.
والضلع السياسي يتمثل في اصطفاف حقيقي مع القوى المعادية للارهاب والمشتركة في ذات المعسكر المواجه له، ومواجهة صادقة وجدية مع مموليه ومن ورائهم، وهو ما لانراه في مصر، بل والأنكى اننا نرى عكسه!
فالخطاب في مصر سواء الرسمي او الاعلامي والنخبوي والمحسوب على الرسمي لا يجرؤ على الاشارة الا الى قطر وتركيا، ورغم ان لهما أضلعا رئيسية في تمويل الارهاب وتوفير الاغطية السياسية له، الا ان السعودية والامارات واسرائيل وامريكا هم اضلع رئيسية بل ولهم يد طولى في دعم الارهاب وتمويله ماديا ولوجستيا وعسكريا، ولا تشير مصر لذلك بل وتعلن تحالفها مع السعودية والامارات وتعلن "سلاما دافئا" مع الصهاينة وتحالفا استراتيجيا مع امريكا!
قد تتمايز بعض السياسات في بعض الملفات عمليا وقد يكون هناك اشياء وراء الكواليس تتنافى مع التحالف العضوي، الا ان مجرد اعلان التحالف وعدم المواجهة هو انتقاص من مصداقية المعركة وانتقاص ايضا في كفاءتها عمليا.
اما على مستوى الضلع الفكري والايدلوجي فإن سنوات طويلة من الاختراق الوهابي وتغلغل النفوذ السعودي تركت ظلالا كثيفة لا توجد جدية في مواجهتها ومحوها بل وهناك نفاق حكومي واعلامي لمؤسساتها مراعاة للنفوذ السعودي، في حين يتم التضييق على انصار التنوير وانصار المقاومة في البلاد ومنعهم من السفر والتنقل والظهور الاعلامي والصحفي!
ان سلطة مصر تبدو أنها تحارب الارهاب بقدم واحدة داخل المعركة بينما القدم الاخرى خارجها، ما سهّل على الارهابيين محاربة سلطة بقدم واحدة!
كذلك هناك مفارقة مأساوية اخرى، وهي ان الحرب تستدعى التعبئة الشعبية، لان الارهاب او الاستعمار لا يهزم الشعوب بينما من الممكن جدا ان يهزم الجيوش.
وفي اطار المعركة الشاملة المشتركة بين الجيش والشعب فإن هناك حواجز كبيرة تحول دون الالتحام، اهمها سلوك السلطة تجاه الشعب والسياسة الداخلية التي اثقلت على المصريين ووضعتهم في الدرك الاسفل من الطبقات الاقتصادية والاجتماعية بفضل اللجوء لصندوق النقد واتباع سياسات اقتصادية ترضي الغرب على حساب الشعب وبفضل انعدام العدالة الاجتماعية التي تقنع الشعب بالتحمل لو كان هناك عدل في توزيع الاعباء.
هذه المصداقية المفقودة شعبيا تحول دون انخراط حقيقي في الحرب وتضعف بالاساس من موقف السلطة لأنها تظل مرتهنة للمساعدات وبالتالي تظل خاضعة لاصطفافات خاطئة وتدخل في دائرة مفرغة من الفشل.
ان كانت هناك جدية في الخلاص فليس على مصر الا ان تعلن عن التبرؤ من معاهدات القيد وتبسط سيطرتها العسكرية على سيناء، وان تعلن اصطفافها الواضح مع سوريا والعراق وايران وفوى المقاومة في مواجهة التكفيريين، وان تحول سياستها الداخلية جذريا نحو اقتصاد الحرب والتوزيع العادل للاعباء والمكتسبات وان تعلن خطابا سياسيا ودينيا واضحا وتحاصر كل القوى التكفيرية ومنها ما هو موجود في السلطة حاليا!
وعليها مراجعة اعلامها بنسف الاعلام المرتزق والعامل لصالح اللوبيهات ورجال الاعمال ومصالحهم والتحول لاعلام وطني وفتح الابواب لكل الكفاءات والاصوات الشريفة المحاصرة.
من هنا يبدأ طريق النصر وان طال، ودون ذلك فنحن نسير لطريق الهزيمة، والذي بكل أسف لن يطول!