ارشيف من :آراء وتحليلات
استقلال الأقاليم يعيد رسم خارطة اوروبا
سركيس أبوزيد
في إطار اليأس من الدول المركزية في الاتحاد الأوروبي، تطالب أقاليم في دول عضوة في الاتحاد الأوروبي باستقلالھا. فإلى جانب كاتالونيا التي أجرت استفتاء شعبيا للاستقلال التام عن حكومة مدريد، تسعى أسكوتلندا وإقليم الباسك وأقاليم أخرى غنية لاتخاذ نفس الخطوة، وتحاول الحكومات إعاقة ذلك بكل الطرق والوسائل، وأحياناً بالتھديد كما يحدث في إسبانيا، مستفيدة من رفض نسبة من السكان الاستقلال.
والسؤال المطروح ھو: ھل سيكتب لھذه الكيانات الصغيرة البقاء والاستمرارية في ظل اضطرابات اقتصادية ومالية خطيرة تعصف بأقوى اقتصادات العالم، وھل تصبح جاذبة للاستثمارات الأجنبية؟
كاتالونيا الساعية منذ سنوات إلى الانفصال التام عن مدريد عبر حركات انفصالية كثيرة، لكن في الآونة الأخيرة، ومع الاضطرابات الاقتصادية العالمية، كان لمطالبتها تبعات خطيرة، إذ بمجرد الإعلان عن نتائج الاستفتاء الشعبي الذي أيّد الانفصال، بدأت الشركات والمصارف الإسبانية بنقل مقارھا الرئيسية من برشلونة عاصمة الإقليم إلى مدريد ومدن إسبانية أخرى، وھي التحركات التي تتعارض مع مصالح الإقليم مالياً واقتصادياً.
فقد نقلت 802 شركة عاملة في كاتالونيا عام 2016 مقراتھا إلى أقاليم أخرى، بالأخص في مدريد، في الوقت نفسه، أعيد توطين 531 شركة، كما غادر أكبر مصرفين في كاتالونيا وھما بنك "زاباديل" و"خياكسا بنك" إلى مناطق أخرى، وبناء عليه تخشى الحكومة الكاتاولونية المزيد من السلبيات على قطاعھا المالي، فھذا القطاع مھم جداً في السعي إلى الاستقلال. ومن الإجراءات التي تخطط حكومة مدريد لھا إصدار مرسوم يسھل على المؤسسات والشركات المالية الخروج من كاتالونيا، ومنذ احتدام الخلاف بين العاصمة الكاتالونية برشلونة والحكومة المركزية في مدريد، تشھد الأسھم المالية تراجعاً ملحوظاً في الأسعار.
فضلاً عن تراجع عدد السياح، فالسياحة تعد واحدة من دعائم الاقتصاد الكاتالوني، إذ تشكل 12 % من الناتج القومي للإقليم، وتراجعت إيرادات ھذا النشاط عقب الاستفتاء وأعمال الشغب العنيفة في الشوارع.. إن انفصال كاتالونيا يعني تلقائياً خروجھا من الاتحاد الأوروبي، حتى ولو رغبت في البقاء، لأنه من الصعب أن تعترف دول كثيرة أوروبية بھا. ولكن بإمكانھا مواصلة استعمال عملة اليورو، كما ھو الحال مع الجبل الأسود وكوسوفو، وإن كانت لن تتمكن من الحصول على قروض من المصرف المركزي الأوروبي، وسيفقد المزارعون الكاتالونيون إعانات الاتحاد الأوروبي، كما ستتأثر تجارتھا، إذ إن إسبانيا ھي أھم سوق لمبيعاتھم، فرغم أن كاتالونيا من أغنى الأقاليم الإسبانية إلا أنه يرزح تحت مديونية ضخمة، وتصل ديونه في الوقت الحالي إلى ما يقرب من 73 مليار يورو، وھذا أعلى قياس للديون في إسبانيا.
وغير بعيد عن إسبانيا تشهد إيطاليا تحركات في الشمال، حيث تسعى أقاليم إلى المزيد من الاستقلالية والنفوذ والحفاظ على نسبة أكبر من الضرائب، وھذه الأقاليم ھي فينتو وفيه أشھر مدن العالم مثل فينسيا وفيرونا، وإقليم لومبارداي، ويضم ميلانو المركز الاقتصادي الأقوى في البلاد، وتتھم حكومتا الإقليمين، روما، بأنھا تأخذ أموالھما، ويطالبان بإدارة شؤونھما بمعزل عنھا.
وتلعب ميلانو دوراً مھماً في عالم المال والأعمال، فھي محور التجارة والبنوك ومركز البورصة الإيطالية، والمدينة المھيمنة في قطاع الصناعات التحويلية، بالأخص في مدينة بريشيا الكبيرة، ما جعل معدل البطالة فيھا ھو الأدنى في كل مدن إيطاليا ولا يتعدى الـ 4 % ويشكل ناتج لومبارداي المحلي نحو خُمس الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا، ويزيد حجم الضرائب والرسوم التي تقتطعھا روما عن الـ 70 مليار يورو، أي أكثر مما تنفقه على المنطقة. وبدلاً من تحويل كل ھذا المبلغ إلى العاصمة روما يرغب سياسيو المنطقة في تحويل النصف، ويھددون بالانفصال إذا لم تلب روما مطالبھم.
منطقة فينيتو لا تقل شأناً، فھي واحدة من أكثر المناطق الاقتصادية في إيطاليا التي شھدت منذ الحرب العالمية الثانية تغييراً ھيكلياً، فتحولت من منطقة ريفية إلى منطقة صناعية، وتسمح الطرقات السريعة التي تربطھا بمدن كميلانو والبندقية، لتكون العامود الفقري لحركة الصناعة والاقتصاد، إلا أن المنطقتين بحاجة ماسة إلى العاصمة روما ومناطق الجنوب اقتصادياً ومالياً وثقافياً.
أما الباسك فيريد أيضاً الاستقلال عن إسبانيا وفرنسا، ويعد إقليم الباسك مركز الصناعة الثقيلة، وأصبح اليوم كذلك مركز التكنولوجيا والمال، وھو لا يختلف عن الإسبان ثقافياً فحسب بل وأيضاً اقتصادياً، بعد أن أخذت حكومة الإقليم أمر تنميته بيدھا على مدى أكثر من عقد من الزمن.. ومنذ أكثر من قرن تمثل بلاد الباسك واحدة من أھم التجمعات الصناعية في إسبانيا، وتحتل واحدة من أكبر البؤر المالية في المحور الأطلسي الأوروبي، ويتم في كل سنة إنشاء ما يقارب من الـ 5000 شركة تجارية فيھا، معظمھا تقليدي، وھي بعكس كاتالونيا التي وقعت تحت وطأة الديون.
وفيما تتمتع أسكوتلندا بحكم ذاتي، إلا أن البرلمان البريطاني يحتفظ بالقدرة على إدخال الإصلاح إليه والتغيير أو إلغاء الحكم، لذا يمكن القول إن البرلمان ھناك ليس ذا سيادة مطلقة، وعليه يطالب بالاستقلال التام.. ويملك الإقليم عدة مقوّمات اقتصادية حيث يبلغ حجم الناتج القومي الإجمالي البالغ 127 مليار جنيه إسترليني سنوياً، ومع ذلك، فإن عائدات الضرائب لا تفيد أسكوتلندا لوحدھا، ولكن المملكة المتحدة ككل، وھي حقيقة غذت النقاش السياسي حول استقلال الإقليم. فضلاً عن المشكلات التي تعاني منها لندن نتيجة لتداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبي ومن ضمنها الخوف من نزوح الشركات، فمع طلب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي فترة انتقالية من عامين بعد خروج بلادھا من الاتحاد الأوروبي المقرر في 29 آذار 2019 ، تخشى أوساط المال والأعمال في بريطانيا من أن يُحدث الخروج تغييراً مفاجئاً للعلاقة التجارية مع دول التكتل، أو أن يؤدي ذلك إلى سيناريو محتمل لا يتم التوصل فيه إلى اتفاق، ما سيؤدي إلى رسوم جمركية كبيرة على الصادرات والواردات. رئيس بلدية لندن صديق خان قال: "إن الشركات البريطانية لا تطلق تھديدات جوفاء عندما تلوح بنقل أعمالھا من لندن، بسبب ضبابية الأوضاع الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن إبرام صفقة تضمن خروجاً سلساً من الاتحاد سيتيح للشركات التخطيط بشكل أدق".
وغير بعيد عن بريطانيا نجد أن ألمانيا أيضاً دخلت في أزمة سياسية غير مسبوقة، غداة فشل مفاوضات تشكيل حكومة بين المسيحيين والليبراليين والخضر، وبينما لاح في الأفق خياران لحل الأزمة، أكدت المستشارة أنجيلا ميركل رفضھا فكرة الاستقالة، وصرحت بأنھا تفضل سيناريو الانتخابات المبكرة على خيار تشكيل حكومة أقلية برئاستھا.
وتنتظر ميركل في الوقت الراھن ما إذا كان الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الاشتراكي الديمقراطي، سيتمكن من إقناع حزبه بأن يشاركھا في الحكم أم لا، وتسبب فشل مفاوضات تشكيل ما يعرف بـ"حكومة جامايكا" الائتلافية في ألمانيا، في ارتباك بالأسواق، نتيجة الغموض الذي يسود وضع أكبر اقتصاد أوروبي.
ويرى بعض المراقبين أن الوضع في ألمانيا غاية في الغموض، والاحتمالات مفتوحة على مصراعيھا، إذ إن الوضع الاقتصادي القوي للبلاد ونتائجھا القوية خلال السنوات والأشھر الماضية يؤكدان على رسوخ أقوى اقتصاد أوروبي، والرابع عالميا من حيث الناتج الإجمالي المحلي.. إلا أن بقاء المستشارة أنجيلا ميركل على رأس السلطة يبقى أمرا مھماً لطمأنة الاقتصاد في ألمانيا وأوروبا على حد سواء؛ خصوصا في ظل عدم وجود بديل واضح يتولى محلھا، مما يجعل ھذا البلد المھم اقتصاديا في قبضة الشلل السياسي، وبالتالي قد يعوق من قوتھا الاقتصادية..
مراقبون يرون أن خروج بريطانيا من الساحة الأوروبية، وانشغال فرنسا المبرر اقتصاديا بأوضاعھا الداخلية، يجعل من ألمانيا عمودا وحيدا قويا يستند إليه اقتصاد أوروبا ككل، وأن أي اضطراب داخلي سينعكس حتما على القارة الأوروبية.
من الواضح أن أوروبا تمر سياسياً وأمنياً واقتصادياً في مرحلة دقيقة ومعقدة يهدد وجودها، فهل ستبقى أوروبا الليبرالية موحدة أم سيعصف بها ربيع أوروبي يقسم الموحد ويجزء المجزء ويعيد رسم الخارطة الأوروبية من جديد؟