ارشيف من :آراء وتحليلات
سيناء.. معركة بلا سلاح
حولت حادثة مسجد الروضة الإرهابية، وما سبقها، وما سوف يلحق بها من حوادث، سيناء من درع مصر الشرقي إلى بوابة الخطر والمورد الأكبر للنعوش الطاهرة إلى الوادي، في غياب قوى سياسية تقرأ المشهد بغير استغلال ومكايدة، فغابت الصورة الحقيقية بين دخان القنابل وزخات الرصاص.
المعرفة بجذر أزمة سيناء وحدها ترسم أملًا لمستقبل قادر على مناطحة السياق الزمني، في وقت يتقاتل السياسيون على جثة الوطن سعيًا لمغانم وقتية، كما حدث في سيناريو سد النهضة، فالمزايدات أوقات المعارك الوطنية الكبرى تدفع الوطن كله تحت أقدام الأعداء، بأيسر السبل.
الانتصار في معركة مصر الحالية يكمن خارج حدودها، مشروط بالإيمان بأن معركة مصر مع الإرهاب في سيناء هي جزء من معركة أكبر، تشمل المنطقة كلها، وبأن العدو الظاهر على رمال الصحراء هو مجرد رأس المؤامرة الأمريكية - الصهيونية، التي تمتد من الجزائر غربًا إلى العراق شرقًا، مرورًا بليبيا ومصر ولبنان وسوريا، سوى ذلك سيطول التيه الحالي ويمتد مع كل مجزرة جديدة، وعقب كل خيانة ستتلاشى الإشارات، وسيدفع الجميع من عمره وإمكاناته أثمانًا باهظة، وقوفًا في المكان ذاته.
سيناء التي تبلغ مساحتها بالكاد 6% فقط من مساحة مصر الكلية، تتفرد بجغرافيا فريدة عن ما يعاينه المصري في الوادي المنبسط، جبال شاهقة ووديان عميقة وطرق وعرة، ساعدت على انتشار التهريب والأنشطة غير المشروعة، ما بين الأسلحة والمخدرات والبشر، وكلها بدأت منذ قيام الكيان الصهيوني بامتداد حدود سيناء الشرقية كلها، وفتحت بوابات رزق حرام لضعاف النفوس من البدو خصوصًا، ما خلق صلات تمتد وتتشعب بين الصهاينة وعملاء محليين، يهتمون باستمرار العلاقات، ويستفيدون من انعدام التواجد الأمني والعسكري الذي فرضه التزام النظم المصرية بالمعاهدة مع الكيان الصهيوني، عقب الانسحاب من سيناء.
ثم أن نقطة جوهرية في جغرافية سيناء، أنها تنفتح على فلسطين والأردن بأكثر مما ترتبط بالدلتا، وصنعت قناة السويس عازلًا ومانعًا عن تواصل مطلوب بين أراضي وطن واحد، وعمّق الانعزال القيود على انتشار قوات مسلحة في المناطق "أ" و"ب" و"ج"، التي تقسم سيناء طبقًا لـكامب ديفيد.
بداية وبداهة.. أي تحليل لا يقرن أزمة سيناء الحالية –ومصر كذلك- بالعامل الصهيوني، هو محض غثاء لن يطرح حلولًا يحتاجها البلد المأزوم، وأي تنظير يبتعد عن إدانة واضحة وقاطعة لأنظمة كامب ديفيد هو لغو فارغ، فالتهديد الموجه لسيناء بدأ منذ قيام الكيان الصهيوني على الحدود الشرقية لها، والأزمة الحالية خرجت من رحم التبعية المقيتة، وتسليم قرار انتشار سلاح الدولة في جزء من الوطن لإرداة طرف خارجي، وأي طرف خارجي.. العدو الصهيوني!
وانفتاح جغرافية سيناء على الخارج، في مقابل دور مصري ينكفئ داخل حدوده، فتح المجال لدخول قطري تركي، عبر بوابات التسليح والتمويل، كجزء من إستراتيجية إثارة القلاقل بالإقليم، والتي لعبت فيها الدولتان دور قيادي، وساهما في تدمير ليبيا، واستباحة سوريا عن طريق ميلشيات تابعة لهما، وحديث حمد بن جاسم، رئيس الوزراء القطري عن دور بلاده في تسليح وتمويل "داعش"، تم في سيناء كما تم في سوريا.
المجتمع السيناوي كمجتمع بدوي في غالبه يميل للتصوف، وكانت الصوفية هي الصبغة الغالبة على الأهالي، حتى بدأت خطوات السادات في ترك منابر المساجد للوهابية، المدعومة بالأموال السعودية، في مواجهة الناصريين، الذين وقفوا أمامه في مناسبات عديدة، وكانت سيناء بانعزالها، والأيادي الصهيوينة التي تغذي أعمال الأنشطة غير الشرعية بها منطقة خطر، وخاصة بعد ما فرضته معاهدة العار من قيود انتشار الوحدات العسكرية والشرطية بها، فنشأت مع الزمن حاضنة شعبية من قبائل سيناء الكبرى (السواركة – الترابين – الحويطات).
خرجت أزمة سيناء لأول مرة إلى العلن مع الانتفاضة الفلسطينية المباركة في سبتمبر 2000، مع انطلاق انتفاضة الأقصى، بدأت الأموال السعودية والقطرية في التدفق على سيناء، بشكل لم تعرفه من قبل، وتولى الإعلام القطري، ممثلًأ في قناة الجزيرة بنشر التحريض على العنف، وقامت الجماعات "السلفية الجهادية" –الوهابية في حقيقتها- باستغلال الحمية الدينية لإثارة منتسبيها ضد السياح الصهاينة أولًا، ثم السياحة بشكل عام، ومع شدة الضربات الأمنية وعنفها، انتقلت إلى المرحلة الثانية باستهداف رجال الشرطة، وتولى صدارة المشهد تنظيم "جماعة التوحيد والجهاد"، بزعامة خالد مساعد.
جاءت عمليات التنظيمات السلفية الجهادية في سيناء قبل ثورة 2011، متأثرة بتنظيم القاعدة، وكانت حصيلة القتلى العظمى من المصريين، وفجر التنظيم في عامي 2005 و2006 أسواقًا شعبية في "دهب" و"شرم الشيخ"، توفي فيها عشرات من العاملين المصريين بالسياحة، ومنهم طلاب جامعيون كانوا يبحثون عن أرزاقهم في العطلات، ولكن تمت التعمية الرسمية عن مثل هذه العمليات، للترويج لرجل النظام القوي "حبيب العادلي".
وضمت عملياتها بعملية تفجير بسيارات مفخخة استهدفت أماكن تواجد سياح في أكتوبر 2004 بطابا ونويبع (جنوب سيناء)، تبعها تفجيران في العام التالي استهدف أحدهما سياح بشرم الشيخ (جنوب سيناء أيضًا)، والآخر استهدف القوات متعددة الجنسيات بالجورة (شمال سيناء)، لكن التنظيم تلقى ضربات أمنية قاصمة، نتج عنها قتل أو القبض على أغلب عناصره، ولقي قائده ومؤسسه مصرعه.
انتقال تنظيمات سيناء إلى مرحلتها الأخطر جاءت بالتزامن مع ظهور "داعش" على مسرح عمليات الشرق الأوسط، وبايع تنظيم "أنصار بيت المقدس" زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي بالخلافة، وركز في عملياته على شمال سيناء، مستفيدًا من غياب التواجد القوي للدولة، وحاضنة شعبية وفرتها جهود المنظرين الأوائل للتنظيمات التكفيرية.
مفتاح انتصار مصر في معركتها الحالية ضد داعش، الذي لا يبدو –حتى اللحظة- قد انهزم، يكمن في التعلم والارتباط بمحور المقاومة، بالعراق وسوريا ولبنان، حيث كنست الدول الثلاث التنظيم الإرهابي إلى مزبلة الماضي، رغم الدعم الأمريكي والصهيوني والسعودي والقطري المعلن غير الخاف على أحد..