ارشيف من :آراء وتحليلات

دور جديد لفرنسا في الشرق الأوسط!

دور جديد لفرنسا في الشرق الأوسط!

سركيس أبوزيد

بعد الدور الذي اضطلع به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إنھاء أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري، وبعد قيادته المعسكر الأوروبي الرافض لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، "باريس_ماكرون" تبدو انها طامحة لدور رئيسي في المنطقة في ظل انكفاء أميركي وتقدم روسي.

فبعد خسارة ترامب لأوراقه في الشرق الأوسط، وتحوله الى موقع دفاعي، وتبوء موسكو لصدارة المشھد في سوريا وعملية "قطف الثمار"، يبدو ثمة تغيّر واضح في خريطة اللاعبين الأساسيين في المنطقة.. يقول جيل كيبيل، البروفسور في العلوم السياسية والخبير في الإسلام: "إن أزمة الحريري مثلا لو حصلت قبل خمس سنوات، لكان الأميركيون ھم الذين تدخلوا لحلھا، لكن إدارة ترامب لا يمكن التنبؤ بأفعالھا لأن ترامب يغرّد شيئا في الصباح ويفعل عكسه بعد الظھر".

ويرى الباحث في معھد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس كريم إميل بيطار أن "الانكفاء الأميركي في المنطقة بدأ مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وازداد مع إدارة ترامب. وفي المقابل، ثمة عودة قوية لروسيا في الملف السوري، وفي مصر، ولفرنسا التي كثف مسؤولوھا زياراتھم لشمال أفريقيا والمغرب العربي. وما ساعد ماكرون في ھذا الدور، أن أقرب المقربين منه يعرفون شؤون الشرق الاوسط جيدا، وفريقه الخاص يضم سفيرين سابقين في بيروت ھما إيمانويل بون وستيفان باولي، إضافة الى أورليان لوشوفالييه الذي عاش في لبنان، كما نسج وزير الخارجية جان إيف لودريان علاقات قوية مع زعماء المنطقة، وتحديدا السعودية والإمارات، إذ كان وزيرا للدفاع في عھد الرئيس السابق فرنسوا ھولاند".

في موضوع القدس تحديدا، بدا صوت ماكرون ھو الأعلى في أوروبا، وربما استفاد من الغضب الكبير الذي أثاره قرار ترامب، والاستياء الشعبي في المنطقة من قرارات سابقة اتخذھا الرئيس الأميركي واعتبرت معادية للمسلمين، للاضطلاع بدور قيادي. ومع انشغال الزعماء الأوروبيين بأزمات داخلية، تزعم ماكرون الجھد الأوروبي لإيجاد مخرج من المأزق الحالي والسماح بعودة المحادثات الإسرائيلية - الفلسطينية، مقترحا خصوصا بدء تجميد الاستيطان واتخاذ إجراءات ثقة حيال السلطة الفسطينية.

وقبل القدس، نزل بثقله في تشرين الثاني المنصرم للتوسط لدى السعودية لحل أزمة الحريري وضمان الاستقرار في لبنان.. فلفرنسا وجود تاريخي وقاعدة ارتكاز، وماكرون يطمح لاستثمار دوره في لبنان كمنصة لعودة باريس الى المنطقة، وذلك على نحو يحاكي استراتيجية بوتين، الذي يستثمر بدوره في سوريا كمنصة لإعادة روسيا الى المنطقة. فالاھتمام الأوروبي بالملف اللبناني يبرز دور فرنسا كمرجعية مدعومة أميركيا وإقليميا لرعاية استكمال حل البعد الإقليمي لأزمة استقالة الحريري، وأيضا لإعادة لبنان الى خريطة الدول المانحة لاقتصاده..

في الملف السوري، يتفرد ماكرون في تسويق موقف فرنسي جديد في الأزمة، مفتتحا مرحلة التكيّف الأوروبي مع فكرة بقاء الرئيس بشار الأسد.. وتعتبر باريس أن لطھران وموسكو تأثيراً كبيراً في سوريا، لذا دعت الى الحوار معهما من أجل الوصول إلى حل سياسي بالتعاون مع الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن الدولي.. مرة جديدة يغلّب الرئيس الفرنسي مبدأ "الواقعية السياسية" في قراءته للعلاقات الدولية، وللدور الذي يمكن لباريس أن تلعبه في إطارھا، وبرز تمسك ماكرون بـ"البراغماتية"، كنھج سياسي في تناوله للحرب في سوريا.

ھذا الموقف الذي عبّر عنه ماكرون خلال مقابلة مع قناة "فرانس4 2"، يتزامن مع إعلان باريس عزمھا على إطلاق عملية تتعلق بإعادة إعمار سوريا، من دون أن تحدد مواعيدھا الدقيقة العام المقبل، أو معالمھا، كما يتزامن مع نية الرئيس الفرنسي الاحتفال بالانتصار على تنظيم "داعش" أسوة بالعراق وروسيا، ولكن في منتصف أو نھاية شھر شباط المقبل.

فعندما يتحدث ماكرون عن تاريخ محدد لنھاية الحرب على تنظيم "داعش"، فإنه يريد لفت الأنظار إلى الدور الفرنسي العسكري والعملياتي الذي قامت به قواته، وبحسب مصادر فرنسية، فإن باريس تتبنى الرؤية الأميركية التي تقول إن الحرب لم تنته، بعكس ما يؤكده الطرف الروسي. لكن ثمة سبباً آخر للموقف الفرنسي، وھو قانوني، إذ إن إعلان التحالف عن نھاية الحرب سيعني سحب الحجة القانونية التي تسمح له بالقيام بعمليات عسكرية في سوريا، والإبقاء على قوات في أجوائھا وأراضيھا.. وتؤكد ھذه المصادر أن باريس "لا تريد أن تستعجل واشنطن الانسحاب، وترى أن البقاء في سوريا يمكن أن يكون وسيلة للتأكد من التوصل للحل السياسي المنشود".

من جهة أخرى تتواجه الطموحات الفرنسية مع سياسات طھران في المنطقة، وهذا ما شكل أحد أسباب التوتر الإيراني- الفرنسي مؤخراً، فثمة لھجة فرنسية جديدة في مخاطبة طھران ونمط جديد في مقاربة الملفات الإقليمية التي لإيران صلة أو تدخل فيھا، كما لا يوجد حماسة في طھران لمنح باريس مساحة تمكين لھا في لبنان تستخدمھا منصة لإعادة إثبات حضورھا في سياسات الشرق المتوسطي، وأن باريس لا تستطيع تجاھل وقائع موجودة في المنطقة التي تطمح للعودة إليھا، وھي وقائع لديھا امتداداتھا انطلاقا من لبنان حتى العراق، وبالعكس.

في الملف الإيراني، يعلن ماكرون استعداده  لزيارة إيران السنة المقبلة، محاولا إنعاش الاتفاق النووي الموقع بين مجموعة 5 +1 للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا وإيران، إضافة الى احتمال التوسط في النزاع بين إيران ودول الخليج.

غازل ماكرون الأميركيين مقترحا التعامل بصرامة أكبر مع برنامج إيران الصاروخي ودورھا في المنطقة، ما يعني البحث عن فرض عقوبات ضاغطة، لكن تبقى دون العقوبات النووية المرفوعة.. فالموقف الأوروبي ثابت من البداية، فهم يرفضون إسقاط الاتفاق واعتبار الحفاظ عليه أولوية استراتيجية أساسية للأمن الأوروبي، وأيضا للأمن الإقليمي والدولي، وأن القضايا الأخرى التي تثار أميركيا بشأن دور إيران في المنطقة وبرنامجھا الصاروخي البالستي، لا تشملھا الصفقة النووية، ويجب أن تعالج خارج الاتفاق.

في النهاية، ماكرون "البراغماتي" استغل تعثر القرار الأميركي حول القدس وخسارة ترامب أوراقا ثمينة في الشرق الأوسط، محاولاً بذلك استعادة فرنسا لدورها ولمكان لها وسط اللاعبين الكبار على أوتار أزمات الشرق الأوسط الذي ما عرف سلاما.. لكن، السؤال هنا، إلى أي مدى يستطيع ماكرون الذهاب بطموحه؟ فلننتظر.

2017-12-23