ارشيف من :آراء وتحليلات
تداعيات قرار ترامب: نحو مقاومة اقليمية شاملة
سركيس أبوزيد
ما زالت تداعيات ردود الأفعال تتوالى على إعلان ترامب القدس عاصمة لـ "إسرائيل"، فلبنان كان أكثر الدول العربية تفاعلا مع قضية القدس والسقف الأعلى في الموقف السياسي جاء في "الخطاب المميّز" لوزير الخارجية جبران باسيل في اجتماع القاھرة مؤخراً، والتظاھرة الأضخم بين كل التظاھرات المنددة في كل العالم العربي والإسلامي سارت في ضاحية بيروت الجنوبية معقل حزب لله، حيث لبّى عشرات الآلاف نداء السيد حسن نصرلله لنصرة القدس واحتشدوا منصتين الى خطابه الذي أعلن الانتقال الى مرحلة جديدة.
حزب لله تصرّف من خلفية أن ھذه اللحظة المناسبة لإعادة الصراع في المنطقة الى سكته الصحيحة بعدما حرفه "الربيع العربي " عن مساره، ولإعادة تجميع كل قوى وفصائل المقاومة في المنطقة في ظل ضبابية الموقف العربي وعودة الشرخ بين الأنظمة والشوارع، وبذلك يكون ترامب قد أعاد الوھج والاعتبار الى الصراع العربي - الإسرائيلي والى القضية الفلسطينية التي كانت منسية ومھملة طيلة السنوات الماضية ووضعت في أسفل لائحة الأولويات العربية والدولية.
الخطاب الثاني الذي ألقاه السيد نصرالله في "موضوع القدس" جاء مختلفا نصا وروحا، لھجة ومضمونا، عن الخطاب الأول الذي ألقاه قبله بأيام والذي بدا فيه على قدر من الاعتدال والتريث، فيما الخطاب الثاني أراده في مستوى الحدث والمرحلة.. وبدا واضحا أن حزب لله بدأ مرحلة "إدارة الظھر" للأزمات الإقليمية، بما في ذلك الأزمة السورية، فيما وجھه ووجھته نحو القدس وفلسطين، وبدأ عملية إعادة تموضع وإعادة ترتيب أولويات باتجاه العودة الى المسألة المركزية و"القضية الأم"، قضية فلسطين ومسألة الصراع مع" إسرائيل" التي ھي ھدف المقاومة ومبرر وجودها.
لذلك، فإن الأمين العام لحزب لله ذھب سريعا الى فتح باب المرحلة الجديدة وذھب بعيدا في حملة التعبئة لشعبه ومجتمعه أولا، وللفلسطينيين ثانيا، والتأھب لمواجھة مفتوحة مع"إسرائيل"، مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك احتمال الحرب التي سيكون فيھا حزب لله مساندا لحركة حماس والجھاد الإسلامي إذا انطلقت ھذه الحرب من غزة.
السيد حسن نصرالله دعا الفلسطينيين الى الصمود والثبات في الموقف، والى الثقة بمحور المقاومة الذي نقل الأزمة من عصر الھزائم الى عصر الانتصارات، والقادر على أن يجعل قرار ترامب بداية النھاية لـ"إسرائيل "بدل أن يكون بداية النھاية للقضية الفلسطينية.
كما تدور في الأوساط الإسرائيلية نقاشات حول دور السيد نصرالله وخطابه الذي حدد فيه موقفاً واضحاً من القدس وفلسطين التاريخية.. وينظر المحللون الاستراتيجيون الاسرائيليون بقلق شديد الى ما ولّدته انتفاضة الشعب الفلسطيني وتحية السيد نصرالله لھا ودعوته لتصعيدھا، من ردود فعل على الصعيدين العربي والعالمي، فقد بدأت نيران التعبير عن إدانة "اسرائيل" والوقوف بحزم مع الشعب الفلسطيني والمقاومة تشتعل في كل مكان.
ويجري مسؤولون إسرائيليون مباحثات سرية ھذه الأيام مع نظرائھم في وزارة الحرب الأميركية وخبراء على رأسھم إليوت أبرامز من وزارة الخارجية الاميركية، حول خطورة وتأثير خطاب السيد نصرالله على ما سبق أن قرره من خطة تحرك في العراق وسوريا ولبنان ومصر.. ذلك أن الإدارة الأميركية تشعر بقلق ھي الأخرى، من زاويتين إضافيتين، إضافة لأسباب قلق الاسرائيليين:
الزاوية الاولى: دعوة السيد نصرالله لعقد اجتماع لكافة فصائل المقاومة إقليمياً لدراسة وبحث ووضع استراتيجية العمل للبرنامج التحرري الواضح الذي طرحه.
الزاوية الثانية: متابعة ومراقبة الدعم الايراني الذي ظھر في الثقة الكاملة التي أبداھا السيد نصرالله حول تسليح فصائل المقاومة الفلسطينية ودعمھا.
عربياً، وعلى نقيض خط المقاومة، أجرى موقع "إيلاف" السعودي مقابلة مع وزير المواصلات والاستخبارات الإسرائيلي "يسرائيل كاتس"، وھي المقابلة الثانية لمسؤول إسرائيلي رفيع المستوى مع ھذا الموقع بعد رئيس الأركان الجنرال "غادي إيزنكوت".. حيث قلل كاتس من شأن إعلان ترامب في ظل معارضة الدول العربية المعتدلة، منھا خصوصا السعودية ومصر والإمارات والأردن، وقال إن الرئيس الأميركي لم يتحدث عن القدس الموحدة كعاصمة لـ"إسرائيل"، بل قال إن مسألة شرق القدس والحدود يتم بحثھا في المفاوضات بين الطرفين.
وفي سياق التطبيع الاقتصادي مع دول الخليج، أعرب عن رغبته في إعادة إحياء قطار الحجاز من جديد، معتبرا أن "ھذا ليس حلما على الإطلاق، ھذا قد يكون واقعاً قريباً جداً إذا توفرت الإرادة، واقترحت "إسرائيل" على دول الخليج طريقا قصيرة للوصول الى حيفا، واستقبال البضائع الأوروبية والأميركية عبر المتوسط، وليس عبر مضيق ھرمز وباب المندب غير الآمنين، كما وصفھما.
أوروبياً، ساد مؤخراً توتر في العلاقة بين "إسرائيل" والاتحاد الأوروبي على خلفية انتقاد فيديريكا موغيريني، وزيرة خارجية الاتحاد، إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" ونيته نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
وكانت الوزيرة الأوروبية قد أكدت أن "إعلان الرئيس ترامب قد يعيدنا إلى الوراء ولحقبة مظلمة"، مشددة على "أننا نؤمن أن الحل الواقعي الوحيد للصراع يستند إلى دولتين، والقدس كعاصمة لـ"إسرائيل" وفلسطين".
وعقبت وزارة الخارجية الإسرائيلية على تصريحات موغيريني بالادعاء أن موقفھا "يبدو مستغربا"، مشددة أن "الإصرار على أن القدس ليست عاصمة "إسرائيل" ھو تنكر لحقيقة تاريخية لا خلاف حولھا".
وقالت مصادر سياسية مطلعة في "تل أبيب" إن التوتر بدأ تحديدا عندما كشف الاتحاد الأوروبي أن نتنياھو فرض نفسه على اجتماع لقادة الاتحاد، دون تلقي دعوة وفقا للبروتوكول، موضحة أنه ادعى خلال خطاب ألقاه في الكنيست بأنه تلقى دعوة من مندوب ليتوانيا لحضور اجتماع الاتحاد والتقاء قادته.. وقد اعتبر المسؤولون في بروكسل ھذا التصرف نوعا من الالتفاف، ومخالفة للبرتوكول الدبلوماسي، وفي أعقاب ذلك قامت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي بتوجيه دعوة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، للقيام بزيارة مماثلة خلال بداية العام المقبل، وھو ما أغضب الإسرائيليين.
وباريس أيضاً كانت من بين الدول التي رعت الاجتماع الأخير لمجلس الأمن لمناقشة الخطوة الأميركية، وتكرر باريس أنھا مع قيام دولتين تعيشان جنباً إلى جنب، وتقتسمان القدس عبر التفاوض.
إسرائيلياً، عادت أوساط عسكرية إسرائيلية للحديث عن مواجھة خطر تحول الھبة الشعبية الفلسطينية ضد "وعد ترامب" و"ابتعاد آفاق التسوية السياسية"، إلى انتفاضة مسلحة مدمرة.. وقالت ھذه الأوساط أنه رغم تأكيد السلطة الفلسطينية رفضھا اندلاع انتفاضة مسلحة وإصرارھا على أن يكون الكفاح سلمياً، فإنھا أبدت تخوفھا من سعي فصائل فلسطينية لعسكرة ھذا الكفاح، موضحة أن ھناك خطراً بأن تتسبب حوادث القتل المتزايدة لفلسطينيين على أيدي جنود الاحتلال في خلق فوضى تتيح للعناصر المتطرفة تفجير الوضع عسكرياً.
وبدأت تظھر تسريبات عن تقديرات إسرائيلية حول إمكان خروج الوضع الميداني عن السيطرة، على نقيض الأيام الماضية، و"الخروج عن السيطرة" ھو تعبير إسرائيلي ملطّف عن أن ما يجري لم يكن متوقعاً، وأن ھناك إمكانية فعلية لأن يتطور الحراك إلى مسارات غير التي كانت تراھن عليھا "تل أبيب".
يقول عامي أيالون المدير السابق للاستخبارات الإسرائيلية: "المشكلة الإسرائيلية - الفلسطينية لم تعد النزاع الأبرز في الشرق الأوسط، والقادة العرب لا تشغلھم القضية الفلسطينية، وأدرك الفلسطينيون أنھم وحدھم ومتروكون لمصيرھم، وتقوّض نفوذ القادة العرب في الشارع، فالناس في القاھرة وعمان وتركيا، لن يؤيدوا أي عمل ضد إيران ما لم يمضِ الملف الفلسطيني قدماً، وإحراز تقدم يصب في مصلحة الفلسطينيين ھو شرط إنشاء أي ائتلاف في الشرق الأوسط، وأتساءل كيف لا تدرك أميركا ورئيسھا وفريقه واقع الأمور".
من الواضح، أن السيد حسن نصرالله حقق مكاسب كبيرة للمقاومة بخطابه مؤخراً وقلب الطاولة كما يقال، وبدأ لأول مرة منذ تأسيس حزب الله بإظھار قوته وقدرته على قيادة حركة مقاومة إقليمية موحدة، فما عاد التاريخ تكتبه الدول، وإنما حق الشعوب الذي لا يموت ما دام وراءه شعب مقاوم.