ارشيف من :ترجمات ودراسات

الأرجنتين صنعت نهضتها في 4 سنوات فقط.. ’اقتصاد المقاومة’ خلطة ’كرشنر’ للنجاح

الأرجنتين صنعت نهضتها في 4 سنوات فقط.. ’اقتصاد المقاومة’ خلطة ’كرشنر’ للنجاح

 


-  اقتصاد حرب وشفافية في الحرب على الفساد شروط أولية للنجاح
-  القطاعات الحقيقية للاقتصاد قادرة على عبور الأزمات
- المؤسسات الدولية طريق الخراب العاجل
- التأميم ومواجهة الاحتكارات الدولية "مقاومة" اقتصادية


اعداد: الأحمد فؤاد -سيد شبل – (مصر)

الفقر، البطالة، معدلات نمو متدنية، انهيار البنية التحتية، أزمات مجتمعية حادة نتيجة للوضع الاقتصادي.. وصف حال للاقتصاد الأرجنتيني قبل 17 عامًا فقط، عبرته الأرجنتين بنجاح كبير، إلا أن تجربتها لا تزال تواجه تحديات كبيرة، ما يجعل إلقاء الضوء عليها ضرورة، ومحاولة خلق نقاط تماس معها واجبًا، وخاصة أن تجارب الخروج من ربقة "التبعية الاقتصادية" للولايات المتحدة تخلق للمقاومة بيئة مؤاتية عالمية، تضيف إليها، وتعد داعمًا ومتفهمًا لقضاياها.
تمنحنا خريطة أمريكا الجنوبية فهمًا أوليًا لأهمية الأرجنتين، فالبلد اللاتيني يمتلك سواحل طويلة على جنوب المحيط الأطلنطي، جعلته حاضرًا بقوة في الحرب العالمية الثانية، ليس كطرف متحارب، لكن كبلد يسعي المتحاربون إلى ضمان نفوذ فيه، نظرًا لموقعه وأهميته، واعتباره بلدًا قياديا من قِبل دول أمريكا الجنوبية الأخرى، بفعل أن الإسبانية هي اللغة السائدة في القارة عدا البرازيل.
مؤسسات الاحتلال الدولي الأقذر في عصر السيطرة الأمريكية على مفاصل اقتصاد العالم هي صندوق النقد والبنك الدوليان، كانوا أصحاب فضل انهيار الاقتصاد الأرجنتيني، كما نعهده في عدد من الدول العربية في منطقتنا، التدخل معناه أن البلد المستهدف سيتحول خلال سنوات إلى ضحية جديدة على مذبح رضى الغرب، حتى يتم حلب البلد بالكامل لمصلحة الشركات المتعددة الجنسيات.


الأرجنتين والقضية الفلسطينية.. خسرناها يوم أن حكمها "اليمينيّون"

عُرفت الأرجنتين في عهد "آل كيرشنر" بمواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، وكانت ضمن جبهة اليسار اللاتيني (فنزويلا، كوبا، وبوليفيا) الداعم عامة للقضايا العربية، بحكم الانضواء في جبهة المقاومة العالمية الممتدة من بيونغ يانغ إلى لاباز ضد البيت الأبيض.

فقد وطّدت كريستينا دي كرشنر علاقتها مع كلّ من فنزويلا والصين وإيران (بشكل واضح) ما ساعدها، بالإضافة إلى عمليات التأميم، على إنعاش العملة الوطنية. وقد انعكست تحالفات الأرجنتين السياسية الخارجية المبنيّة على رغبتها في تحقيق تنمية اقتصادية مستقلة بالداخل، على موقفها من القضية الفلسطينية، وجعلتها خصماً للبيت الأبيض و"إسرائيل".
 
وكان أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قد قلّد كريستينا في أغسطس 2015 وسام "نجمة فلسطين"، وهو وسام متميّز، وذلك تقدير على مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، والناقدة لإرهاب مغتصبي الأرض.
وكانت الأرجنتين قد اعترفت بدولة فلسطين في ديسمبر 2010، مع عدد من دول أمريكا الجنوبية الأخرى. (وهو موقف محمود حينما يأتي من دولة أجنبية، ويعتبر قاعدة إيجابية يمكن البناء عليها خاصة في مرحلة الجزر التي نعيشها، لكن الإيمان الثابت هو أن المُراد استرداده: فلسطين كاملة من النهر للبحر عربية، وليست "دويلة" في حدود ما قبل 67).
وقد شهدت علاقات "كيرشنر" بواشنطن توترات متتالية حيث اتهمت كيرشنر البيت الأبيض بالوقوف وراء الأزمة المالية في بلادها، كما وجهت انتقاداً لاذعاً للإنجليز بخصوص احتلالهم لجزر الماليون (الفوكلاند).

الأرجنتين صنعت نهضتها في 4 سنوات فقط.. ’اقتصاد المقاومة’ خلطة ’كرشنر’ للنجاح
الرئيسة السابقة للارجنتين كريستينا دي كرشنر


لكن الأمر تبدّل مع مجيء الرئيس اليميني ورجل الأعمال المعروف بعلاقاته الوطيدة بالبيت الأبيض "ماوريسيو ماكري" ووصوله لرئاسة الأرجنتين، وهذا ما انكشف في التصويت الأخير الذي أجري بالأمم المتحدة، حيث اصطفت الأرجنتين في صف دونالد ترَمب، وامتنعت عن التصويت لمصلحة القرار الذي  يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وتخلّفت الأرجنتين عن اللحاق بركب 128 دولة أيّدت هذا القرار، وانتقلت إلى معسكر الممتنعين عن التصويت (وهو اصطفاف ضمني مع الولايات المتحدة)، ورافقها في هذا الموقف ابنة ذات القارة: كولومبيا، وهي التي كان يصفها الراحل هوجو شافيزبـ "إسرائيل أمريكا اللاتينية"، كونها تمثّل أداة في يد واشنطن لتخريب المنطقة كما "إسرائيل" في الوطن العربي والمنطقة عامة، مع تثبيت حقيقة ان "إسرائيل" كيان مصنوع من مجموعة من المهاجرين.
وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن القضية الفلسطينية العربية تتأثر بالمتغيرات العالمية وأن تحوّل دفّة الحكم من اليسار إلى اليمين في بلد مثل الأرجنتين، أدّى على الفور لدخول الحُكم في العباءة الأمريكية، وتوسّع النفوذ الصهيوني في البلاد، وهو ما تجسّد بدوره في صورة امتناع الأرجنتين عن تأييد القرار الأممي الذي يخطّئ دونالد ترامب، وهذا يؤكد أن الصراع العربي الصهيوني هو جزء من صراع أممي عام، ضد منظومة النهب الدولية التي تتزعّمها واشنطن، وأننا أصحاب مصلحة مباشرة في دعم هذه الجبهة العالمية المفتوحة ضد الأمريكي، وأن بلاداً مثل كوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا وبوليفيا، تحتاج منا للدعم لأن الحفاظ عليها في الصف اليساري المعادي لأمريكا، انطلاقا من مصالحها الماديّة، هو تمتين للجبهة العالمية التي نحتاجها في نضالنا بقضايانا المحليّة.


أمريكا.. شيطان الخراب الأكبر


بداية الخراب الأرجنتيني جاءت مماثلة لبداية كل خراب، الأصابع الأمريكية تبدأ عزفها النشاز، لينتهي الأمر بانقلاب يميني عام 1976، نفذته عناصر عسكرية مرتبطة بأمريكا ومولته الولايات المتحدة، لتقع البلاد تحت وصاية البنك الدولي، وكان من نتائجه أن غرقت الارجنتين في ثنائية التضخم والبطالة، لتأتي أوامر المؤسسات المانحة الدولية بالتخلي عن الأصول العامة بالخصخصة، وتسبب الفساد وفوائد الديون في بيعها بأبخس الأثمان.
جاءت بداية خطوات الأرجنتين مع الإصلاح متأخرة، عام ‏2001‏، بعد وصول الاقتصاد الأرجنتيني إلى حافة الانهيار التام، وكانت قاب قوسين من إعلان إفلاسها تمامًا، في أسوأ أزمة مالية شهدها البلد اللاتيني، ووصف الوضع المعيشي للمواطنين بالصعب، عقب وصول التضخم إلى نسبة تقارب 700%.
وتعرض الاقتصاد الأرجنتيني إلى الانهيار بشكل عنيف في ديسمبر 2001، واضطرت الحكومة لخفض الإنفاق العام بنسبة 20%، أي بمقدار10 مليارات دولار، من خلال عدد من الإجراءات التقشفية، علي رأسها تخفيض أجور العاملين بالحكومة بنسبة 13%, وهو ما كان بمنزلة الفتيل الذي أشعل ثورة الغضب الشعبي واندلعت مظاهرات احتجاجية، زلزلت أرجاء العاصمة بيونس إيرس.
واكتمل المشهد المأساوي أمام العالم، بتراجع اقتصاد الأرجنتين أمام ارتفاع الديون الخارجية، وتجميد الأرصدة البنكية، وتراجع قيمة العملة المحلية بنسبة الثلثين، وارتفاع نسبة البطالة إلى 20%، والدفع بغالبية الطبقة الوسطى إلى حافة الفقر، وتوقفت أي أعمال خدمية في كل البلد، وصل الاقتصاد الأرجنتيني إلي نقطة العجز عن الوفاء بخدمة ديونه الخارجية، وأكدت الإحصاءات أن أكثر من 60% من السكان يعيشون تحت خط الفقر.

الأرجنتين صنعت نهضتها في 4 سنوات فقط.. ’اقتصاد المقاومة’ خلطة ’كرشنر’ للنجاح
نجاح كيرشنر دفع الأرجنتيني للتصويت لزوجته كي تستكمل مسيرة النهوض


الانهيار والديون القذرة

أزمة الأرجنتين، كما هي أزمة أي بلد نامٍ، تتمثل في إخضاع الاقتصاد لخدمة مصالح الشركات الكبرى، فالديون الخارجية للأرجنتين ارتفعت من 8 مليارات إلى 45 مليار دولار، خلال 7 سنوات فقط من وصاية البنك الدولي وتدخله السافر في رسم السياسات الاقتصادية للبلد، ووصفت بأنها "ديون قذرة" لم يصل البلد منها أي دولار.
وقضت محكمة أرجنتينية، درست ملفات القروض الأجنبية لمدة 18 عاما، في حكم صدر عام 2000، وجاء في 195 صفحة، بـ"لا شرعية" الدين، وجرّم الحكم الدائنين الدوليين الخاصين، وصندوق النقد الدولي والاحتياطي الفيديرالي الأمريكي، وبرهن على جشع الرأسماليين الأرجنتينيين الذين يصدرون رساميلهم بانتظام إلى الخارج، بعد إفراغ الاقتصاد الوطني من صناعاته وثرواته.


التأميم هو الحل

خلال فترة رئاسية واحدة مدتها 4 سنوات، استطاع الرئيس الأرجنتيني ـ الراحل ـ نستور كيرشنر أن يصعد بالأرجنتين من الهاوية، ويحدث انتعاشا اقتصاديًا منقطع النظير ليصنع بذلك من التجربة الأرجنتينية نموذجًا ملهمًا في كيفية وضع وتنفيذ خطط "التنمية"، وقدم نموذجًا لكل دول العالم على إمكانية خلق التجربة الوطنية المستقلة في الإصلاح بعيدًا عن شروط المؤسسات الدولية.
وأعلن "كيرشنر" تأميم عدد من الشركات والمؤسسات الوطنية، التي فقدتها الدولة في موجة الخصخصة خلال التسعينيات، حيث فرض الانهيار الاقتصادي، تحت الوصاية الدولية، بيعها تحت الضغوط الدولية أيضًا!.
وسارت خطوات التأميم متئدة، على النحو التالي:
 إعادة تأميم مصلحة البريد، كانت تملكها الدولة بين عامي 1949 وخصخصت 1997.
وتلاها تأميم شركة المياه الوطنية في 2006، تمت خصخصتها في 1993.
 تأميم صندوق التقاعد في 2008.
إعادة تأميم الخطوط الجوية الأرجنتينية - كانت تملكها الدولة بين عامي 1949 و1990.
وفي 2012 تأميم شركة "اي بي اف" النفطية التابعة لمجموعة "ريبسول" الإسبانية، التي تمت خصخصتها في 1993.
وفي 2013 تمت إعادة تأميم كل من ميتروغاز – تمت خصخصتها في 1992- وشركة الحديد والصلب الفنزويلية "برلجرانوا كاراكاس" والتي تمت خصخصتها في 1999.

وباتت "خلطة كيرشنر" أسلوبًا في العمل بعدد من دول أمريكا اللاتينية، بسبب تشابه الظروف واللغة، خلطة لا يمكن وصفها بالسحرية، البساطة مفتاح العبقرية في الحل الأرجنتيني، جمع كل ما هو متاح من إمكانات لتحقيق المرجو في زمن قياسي، الشفافية الكاملة مع المواطنين، لا رحمة مع الفساد، والأهم، لا توقف عند شروط البنك والصندوق الدوليين.

 

التنمية من أجل من؟

واستطاع كيرشنر الخروج ببلاده من براثن الأزمة الخانقة، وأجاب عن سؤال "التنمية من أجل من" بالالتجاء لشعبه، وأعلن خطة للإصلاح الشامل في البلاد، وموّل مشروعات التعليم والخدمات الصحية، فضلا عن تنفيذ برنامج وطني استهدف تحسين مستوى المعيشة بنسبة 60% من المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
ودعّم كيرشنر تكتلا إقليميا للتجارة الحرة، اشتركت فيه الأرجنتين مع البرازيل والأوروجواي وباراجواي، ودعم روابط بلاده مع حكومات اليسار لكل من فنزويلا وبوليفيا.
وتسبب تعلق المواطن الأرجنتيني بسياسات كيرشنر الناجحة في الحكم للدرجة التي دفعت الناخب الأرجنتيني إلي أن يصوت لزوجته كرستينا فيرنانديز في فترتين متتاليتين من رئاسة الأرجنتين كي تستكمل مسيرة النهوض التي بدأها زوجها، فلم يكن برنامجها الانتخابي وحده هو سبب وصولها للسلطة، فقد ساعدتها الكاريزما السياسية بوصفها زوجة الرئيس الناجح على الفوز بمقعد الرئاسة.
وبعد مرور ما يقرب من عقد من الزمن علي النهضة التي صنعها كريشنر، تمتعت الأرجنتين بازدهار اقتصادي، وهي ثالث أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وفي عام 2012 نما الاقتصاد الأرجنتيني بنسبة 9%.

الأرجنتين صنعت نهضتها في 4 سنوات فقط.. ’اقتصاد المقاومة’ خلطة ’كرشنر’ للنجاح
رئيس الأرجنتين الحالي ماوريسيو ماكري

 

عودة السيطرة الأجنبية
لم تيأس المؤسسات المالية الدولية من إعادة تخضيع الأرجنتين لتدور في فلكها من جديد، وجاء الزمن الجديد برعاية رئيس الأرجنتين الحالي ماوريسيو ماكري، رجل الأعمال المنحدر من أسرة ثرية، الذي فاز على مرشح الحزب اليساري دانيال سيولي، وتولى الرئاسة رسميًا في ديسمبر 2015.
وبعد أسبوع واحد من تولي ماكري منصب الرئاسة، أعلن تعويم العملة المحلية البيزو، سعيًا وراء رضى البنك والصندوق الدوليين، اللذين أشادا بالخطوة، معتبرين أنها الحل المثالي لعلاج "آثار" حكم "كيرشنر".
ومنذ بداية حكمه، يعاني المواطن الفقير الأمرّين، ما بين تضخم منفلت، وكساد يضرب كل قطاعات الاقتصاد.
منذ بداية حكم ماكري، اقترضت الأرجنتين نحو خمسين مليار دولار بحيث ارتفعت نسبة ديونها من 42 إلى 53% من إجمالي الناتج المحلي، وكانت تداعيات الإصلاح المفروض من صندوق النقد الدولي مؤلمة على السكان، وأدى إلغاء المراقبة على سوق النقد إلى تجاوز التضخم السنوي نسبة 40%.

وتتوقع الحكومة نموا سنويا بمقدار 3%، ورغم أنها نسبة ضعيفة للغاية، ولكن لا مؤشرات للنهوض حتى الآن، وتوقع المعهد الرسمي الأرجنتيني للإحصاءات أن تبلغ نسبة الانكماش العام 2016 نحو 2.4%.

2018-01-03