ارشيف من :آراء وتحليلات
1948 – 2018 ..سبعون عاماً على نكبة فلسطين
لؤي توفيق حسن(*)
“البندقية الفلسطينية جاهزة وسوف نقوم باستخدامها إذا حاولوا منعنا من الصلاة في القدس ..” ـ ياسر عرفات (أبو عمار)
لم تحظ قضيةٌ على اجماعٍ كما حظيت قضية فلسطين؛ الإشارة هنا للمستوى الشعبي وحسب، اما عن المستوى الرسمي فقد كانت قضية ضاغطة عليه فبين طلب رضا الغرب ضمانة للعروش والرئاسات وبين الضغط الشعبي مارست الأنظمة اشد اشكال "التقية"!، فهي رفعت راية فلسطين في كل منابرها، ولم تكن كذلك في مواقفها، او دبلوماسياتها السرية . كانت فظاعة اقتلاع شعب عربي من ارضه فيما اطلق عليه نكبة 48، ثم فوقها مرارة نكسة 67 قد اسس في العقل العربي لمنظومة قيمية لا تقبل باقل من تحرير فلسطين كل فلسطين، وعلى هامشها مناعة نفسية وثقافية قطعت الطريق على اي أمكانية للقبول بالكيان الغاصب، فكان مجرد الشبهة بالتعامل معها بمثابة الاساءة للجهة او الشخص المشتبه به. هذا على المستوى الشعبي بصفة عامة.
لقد كان المطلوب ومازال ضرب هذه المناعة وهذه المنظومة القيمية التي شكلت بؤرة الأستقطاب الوحيدة عربياً، جاذبةً العرب لساحات فلسطين فسقط منهم ما يوازي ما سقط من شهداء فلسطينيين بالذات، تشير بعض الأحصائيات إلى 50 الف شهيد. من المفيد هنا ان نذكر بان بداية التداعي العربي لنجدة فلسطين بعيد "وعد بلفور" جاءت تحت مُسمى : "المؤتمر السوري الأول " ثم الثاني، باعتبار فلسطين جزء من سوريا . فيما بعد اخذت القضية مساراً اكثر آخر، لكنه لم يكن قطعاً على حساب جاذبيتها القومية باعتبارها القضية العربية الأولى .
"بارونات" القضية !
بعد النكبة تبنى العرب "العمل الفدائي" بوصفه متنفساً لمشاعر القهر والخيبة التي استولدتها هزيمة 67 فدعمته الأنظمة العربية على هذا الأساس، ليغدوا منشفةً امتصت ماء وجههم الذي أُريق في ذلك الصيف من العام المذكور !. فيما شكلت للبعض الأخر من اغنياء العرب مخرجاً (كفَّروا) فيه عن تقاعسهم التاريخي في بذل الدم بان بذلوا المال سخياً على "الثورة الفلسطينية "، ويا لها من حيلة خبيثة سبق وحذر منها القائد الفيتنامي والثوري الفذ "هوشي منه" في قوله : " إذا اردت أن تُفسد ثورة أغدق عليها المال". وبالفعل تحول العديد من قادتها إلى نوع من البارونات بعد انتقال الثورة إلى لبنان، فجذبتهم اضواء بيروت بفنادقها ذات الخمسة نجوم وشققها الفخمة واحيانا علب لياليها!، بل وبعضهم انغمس في عالم الأعمال والمال، وجاء ذلك على حساب الروح الثورية وثقافتها القيمية، أكلاً من روح الجندية المتأهبة، فشهدت المنظمة حالات من الفساد برعاية شلل ما كانت تتفق إلا على رعايته بالرغم من صراعاتها على الحصص !. والخلاصة تحول الفساد إلى حالة نمطية متجذرة لم يستطع ابو عمار ان يتغلب عليها فحاول احتواءها بحنكته وبدهائه وعلى طريقته !، لكن لم يلبث ان وقع ضحيتها فيما بعد. كان من نتائج هذه الأمراض الإداء الملتبس للمنظمة خلال التصدي للاجتياح الأسرائيلي للبنان صيف 82، ودور الموساد في ذلك والذي وصلت إختراقاته إلى الدائرة القريبة من ابوعمار بعدما تبين ان مرافقه الخاص هو من عملائها !، مما اضطره ايامها لتغير مبيته الليلي خلال حصار بيروت اكثر من مرة في الليلة الواحدة.
" اوسـلو "
حملت المنظمة السوس الذي نخر فيها خلال ايامها اللبنانية إلى منفاها التونسي، وهناك تحولت إلى مجموعة بيروقراطية تعيش حالة استرخاء . كانت المنظمة منغمسة في صراع المحاور العربية على حساب الاهتمام باحوال الفلسطينين في الداخل الذي حوله الاحتلال إلى جهنم حقيقية .هذا النمط القاتل كسرته شرارة جباليا يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 1987. وكما قال ماوتسي تونغ " شرارة واحدة كفيلة باحراق السهل كله"، جاءت الانتفاضة الاولى ناراً في هشيم ينتظرها لتعم الأرض المحتلة وينبثق عنها " قيادة موحدة للانتفاضة " ؛ وللعلم فإن هذا النمط من المواجهة المدنية غير المسلحة لم تكن مطروحة من منظمة التحرير، بل ان اول من طرحها كان مبارك عوض الاستاذ في علم النفس في جامعات امريكا يومها اتهمته المنظمة بالعمالة قبل ان تتبناه !، فيما اعتبرت من ايده " سذجاً" من امثال سري نسيبة وحنا سنيورة . التحقت المنظمة بالانتفاضة، هذه هي الحقيقة، إلا ان هذه الأخير بدل ان تخترق المنظمة بثقافةٍ وروحٍ ثورية جديدة، وترفدها بدماء شابة، حصل العكس حتى وقعت المنظمة في فخ "اوسلو"، والحقيقة أن هذه الأخيرة زينها الاسترخاء والدعة التي تاسست في بيروت، هو ذا جذر الحقيقة، ومنه زينت المنظمة لنفسها افكاراً كأنها وحدها تملك الساحة، كان منها التصور ان متراً مربعا حراً تقوم فوقه سلطة فلسطينية مستقلة في الداخل مهما كان الثمن سيتحول مع الزمن إلى وطن بالاف الكيلومترات المربعة !، ليتضح العكس مع التضيق وسياسة الاستيطان المستفحلة وقبلها انكسار الروح الثورية . وكانت مقولة " استقلالية القرار الوطني الفلسطيني" بداية تقوقع القضية قومياً او عزلتها، ثم جاءت صرخة قيادة المنظمة " يا وحدنا"!! لتبرر صفقتها المنفردة في "اوسلو". امر تشتهيه قيادات عربية فردت عليها الصدى: " أذهب انت وربك فقاتلا" !. فكان حصار ياسر عرفات والجميع يتفرج إلا حسني مبارك الذي بعث له بعمر سليمان رسولاً ليقول له تعال "معي بالطائرة او تلقى وعدك"!،
عرفات شهيداً
"لقد وصلوا لي" هذا ما قاله عرفات لأحد اصدقائه عندما اخذ السم يهد جسده، فقد كان المطلوب استبعاد الرجل من المشهد السياسي بعد ما رفض تقديم المزيد من التنازلات فضلاً عن انه القادر على خربطة اللعبة بحكم موقعه وبحكم مكانته ورمزيته. فكيف وهو "الختيار" الوحيد بين القيادة التي شاخت من غير أن يحني الزمان هامته، ولا استطاعت المحن كسر روحه الثورية فكان اغتياله بالسم بالرغم من حرصه مما يشي بان الفاعل من الدائرة القريبة . لم يتمكنوا منه في بيروت لكنهم استطاعوا أخيراً في رام الله، ليسقط عرفات شهيداً ! . وبغيابه جاءت "اوسلو 2" الكارثية التي حولت السلطة إلى مجرد ناطور لحماية المستوطنات . وذلك كله في ظل نمط سياسي يتحكم به الاعتقاد بان مفاتيح الدولة الفلسطينية في اليد الأمريكية وحسب! . لكن امريكا لم تكن يوما صريحةً ولا منسجمة مع نفسها في كشف تصهينها مثل ما هي عليه في ايام دونالد ترامب ! . كانت في الماضي تراوغ لتعطي الكيان الصهيوني المزيد من الوقت كيما يهود ما تبقى من أرض فلسطين !، اليوم وبكل وقاحة قالت : أذهبوا ايها الفلسطينيون إلى الجحيم وافعلوا ما بوسعكم، "القدس عاصمة أسرائيل"، ولا مساعدات بعد اليوم للسلطة ولا شيء سوى الحديث عن وطن بديل بين الأردن أو مصر تشارك فيه من سيناءها !!! ..هذا بكل وقاحة.
لم يعد امام سلطة رام الله إلا شيء واحد يحفظ كرامتها امام شعبها والتاريخ، وهو ان تركل الطاولة بقدميها، لتتناثر بعدها احجار الرقعة، توسيعاً في الطريق لقادمين جدد في المستقبل كيما يملوا قواعد جديدة للعبة . ليس هنالك من حل الأن إلا أن تحل السلطة نفسها . وبهذا تصبح "اسرائيل" وجهاً لوجه أمام الحقيقة وهي انها دولة احتلال بكل ما يرتبه هذا عليها من مسؤليات ومن اعباء. وما عدا ذلك ستغدو سلطة رام الله ناطوراً للأحتلال، او وسادة لتلقي لكمات "اسرائيل"، وضغوطات العرب !.
(*) كاتب لبناني