ارشيف من :آراء وتحليلات
العقيدة الاستراتيجية الاوراسية لروسيا
هناك فكرة اساسية تقول ان الجغرافيا تصنع التاريخ. وهذا ينطبق بشكل خاص على روسيا. فهي بلد اوراسي (اوروبي ـ اسيوي) كبير، يمتد على مساحة اكثر من 17 مليون كلم مربع، ويشغل 40% من مساحة اوروبا. ومساحة الدولة الروسية هي اكبر من مساحة القارة الاوروبية بمجملها (اي بما فيها الـ40% لروسيا). وتمتلك روسيا ثروات طبيعية هائلة. وهي لها حدود برية مع 14 دولة اوروبية واسيوية، وحدود بحرية مع المانيا عبر بحر البلطيق، ومع اليابان عبر بحر اوخوتسك، ومع الولايات المتحدة الاميركية عبر مضيق بيرنغ. وبهذا الموقع الجغرافي والمساحة الكبرى تمثل روسيا الجسر الاكبر الذي يربط بين اوروبا واسيا.
وبهذا الموقع، والمساحة، والثروات الطبيعية، قدم لنا التاريخ المعطيات التالية:
ـ1ـ تمتاز الفيديرالية الروسية بالتعددية الهائلة للاقوام والاتنيات التي تستوطن الارض الروسية، والتي تشد لحمتها القومية الروسية التي تطبع بهويتها الثقافية وتوجهها الوطني الاساسي روسيا بأسرها.
ـ2ـ ان روسيا بشرا وارضا كانت (ولا زالت) مطمعا للغزاة والطغاة منذ فجر التاريخ.
ـ3ـ تميز الروس بقوة الشكيمة والمقاومة الشعبية الشديدة للغزاة والطغاة من الشرق ومن الغرب:
أ ـ فالامبراطورية الرومانية التي قامت على النظام العبودي، بعد هزيمة قرطاجة وتفكك نظام الشيوعية البدائية، كانت تنظر الى الروس (السلافيين) على أنهم ليسوا اكثر من "مزرعة عبيد" متوحشين، حتى ان كلمة (Slav) (=سلافي) اصبحت مرادفة لكلمة "عبد" (slave=) في عدد من اللغات الاوروبية، والكلمة العربية "صقلبي" (=سلافي) انقلبت الى “esclave” (=عبد) في لغات اوروبية اخرى، وكلمة "موجيك" (فلاح) الروسية اصبحت تعني "روسي = بدائي فظ ومتوحش" في اللغات الاوروبية الغربية. وهذه العنصرية الالسنية موروثة من العهد الروماني. ولكن مع كل قوتها فإن الامبراطورية الرومانية التي انتصرت على اجدادنا الكنعانيين والامازيغ والاقباط (=المصريين) والاغريق والمقدونيين والصربيين والبلغار، وقفت عند سواحل البحر الاسود واوكرانيا، ولم تستطع ان تخترق الارض الروسية بفعل شدة المقاومة الشعبية للروس حتى وهم لا زالوا جماعات متفرقة وقبل ان يصبحوا دولة وشعبا موحدين.
ب ـ وفي القرون الوسطى المبكرة، حينما ظهرت مملكة الخزر اليهودية على مصب نهر الفولغا وسواحل بحر قزوين، وجرى الغزو المغولي ـ التتاري للاراضي الروسية، وتأسست مملكتهم المسماة "الاورطة الذهبية"، تحولت تجارة العبيد الى احد اهم مصادر الربح لليهود الخزر والمغول والتتار وحلفائهم الطورانيين الاتراك والشركس، الذين كانوا جميعا يصطادون الرجال والنساء والاولاد والبنات الروس، ويبعونهم الى اليهود الخزر، الذين يبيعونهم الى اليهود العبرانيين، الذين بدورهم يصنفونهم و"يحضّرونهم" ويبيعونهم كغلمان وخصيان وعبيد واماء وبغايا الى الامراء والميسورين والقوادين العرب والمسلمين، من الاندلس حتى سور الصين. وكانت الاماء والبغايا في الاصقاع العربية يسمَّين "روميات" (اي اغريق ومقدونيات)، والواقع ان قلة من هاتيك البائسات كن "روميات" اما الاغلبية فكن "سلافيات" روسيات. ولكن الانتفاضات الروسية المتتالية قضت على مملكتي اليهود الخزر والمغول والتتار واخرجتهما من التاريخ. ومن تبقى من اليهود الخزر والمغول والتتار يعيشون الان في روسيا كمواطنين مسالمين لهم كل حقوق المواطن الروسي. ولا يغير من جوهر العلاقة الوطنية الروسية مع عامة اليهود نشوء الحركة الصهيونية في صفوفهم، الموالية للغرب الاستعماري والمعادية لروسيا التي انقذت يهود اوروبا كلها من الابادة التامة على ايدي النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
ج ـ وبعد ان سحق الروس المغول والتتار والطورانيين والخزر، وتخلصوا من نيرههم مرة والى الابد، غزاهم "الصليبيون الشماليون" في الوقت ذاته الذي غزا فيه "الصليبيون" الشرق، ومكثوا فيه حوالى 250 سنة. ومع ان الروس كانوا افقر واضعف بكثير من العرب والمسلمين وكانوا نصف جياع نصف عراة فإنهم سحقوا سحقا "الصليبيين الشماليين" منذ اول وصولهم الى الاراضي الروسية. وحتى ايامنا هذه فإن السويديين والسكندينافيين والبلطيقيين ناهيك عن الالمان والبولونيين، يرتجفون لدى سماع كلمة "روسي".
د ـ وفي التاريخ القريب شن نابوليون حملته الروسية على رأس جيش مؤلف من نصف مليون جندي هم زهرة شباب فرنسا في حينه، فلم يرجع معه منهم احياء سوى بضعة آلاف. ولو لم يهاجم نابوليون روسيا لاستطاع الهيمنة على اوروبا كلها.
هـ ـ وربما لا حاجة للتذكير بأن هتلر احتل غالبية الارض الاوروبية في بضعة اشهر وسخر اقتصاداتها وعمالها للعمل لصالح المانيا، كي يستطيع تعبئة اكبر عدد ممكن من الشبان والرجال الالمان لشن "الحرب الصاعقة" ضد روسيا بحيث وصل الجيش الالماني الى مسافة 40 كلم من موسكو ذاتها. ولكن العملاق الشعبي الروسي نهض من كبوته وحرر ارضه وسحق الافعى الهتلرية في برلين ذاتها.
و ـ وعلينا ان لا ننسى ان الجيش الاحمر (الروسي اساسا) الذي سحق الهتلرية وحرر اوروبا والعالم منها، هو نفسه الذي، بعد استسلام المانيا في ايار 1945، سحق الجيش الياباني الذي كان يحتشد بالملايين في الصين وكوريا، وحرر شعوب شرق اسيا والعالم من الفاشية اليابانية ايضا.
ـ4ـ امام هذه المعطيات التاريخية من الطبيعي ان الشعب الروسي ينظر الى نفسه أنه محرر شعوب العالم من النازية والفاشية في الشرق والغرب. والان لو اجتمعت كل قوى الامبريالية واليهودية والطغيان والعدوان في العالم فإنها لن تستطيع ان تنال من روسيا بل ستدفن في مكانها بأسرع مما تتصور. والعقيدة العسكرية الروسية الحالية تقول: لن نكون معتدين ولكن الضربة الاولى ستكون لنا، وهي ستكون الضربة الاولى والاخيرة لانها ستكون ضربة نووية ساحقة ماحقة من البحر والبر والجو والفضاء الكوني.
بهذه الروحية لرد العدوان والظلم، المتأصلة في الشعب الروسي، تتبنى الانتلجنسيا والنخبة والقيادة الروسية، وعلى رأسها فلاديمير بوتين، فكرة الاستراتيجية "الاوراسية"، الداعية الى التعاون المفتوح والشامل، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا وامنيا وعسكريا، بين جميع شعوب آسيا واوروبا، واستطرادا جميع شعوب العالم الطامحة الى الاستقلال والتحرر، وان تضطلع روسيا بدور مركزي في هذه العملية التاريخية الكبرى، على غرار ما اضطلعت به في تحرير شعوب العالم من النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية.
والركائز الرئيسية التي تقوم عليها الاستراتيجية الاوراسية لروسيا هي:
ـ1ـ التقارب والتعاون الاخوي مع الجمهوريات السوفياتية السابقة.
ـ2ـ توسيع وتعميق التعاون الوثيق سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا مع الصين الشعبية والهند بوصفهما اكبر دولتين في العالم، والعمل على ازالة الخلافات بين هاتين الدولتين والتقريب بينهما لصالح شعبيهما العظيمين وشعوب العالم قاطبة.
ـ3ـ احتواء وتجاوز الاختلافات السياسية والايديولوجية والدينية مع البلدان العربية والاسلامية، دولا وشعوبا، ومد يد المساعدة لهذه الدول، بكل اشكالها، والتقريب فيما بينها ودفعها الى توحيد صفوفها والتحول الى قوة تحررية فاعلة في تقرير مصير العالم المعاصر.
ـ4ــ هذا من جهة ومن جهة ثانية: مد يد الصداقة الى شعوب اوروبا ودفعها الى طي صفحة الماضي السوداء المتعلقة بالتراث الاستعماري والحرب الباردة. وتتحلى روسيا بالكثير من الصبر وطول الاناة لتحمل جميع الاستفزازات ومظاهر العداء الاوروبي غير المبرر ضد روسيا. وهذا ما ينبغي التوقف عنده بشكل خاص.