ارشيف من :آراء وتحليلات
تركيا والبحث عن النفوذ في العالم العربي
تركيا إلى أين؟ هو العنوان الأبرز لما تشهده الساحة التركية على جميع الأصعدة الداخلية، الإقليمية، والدولية. تركيا المبتعدة عن أميركا، المتوددة الى روسيا، المتوترة مع أوروبا الى درجة فك ارتباطها بمشروع الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، ماضية في التوجه إلى انتهاج القوة الخشنة في سياستها الخارجية، واستغلال التطورات الجارية في المنطقة بحثا عن الدور والنفوذ، ما سيشكل مسارات السياسة التركية تجاه أزمات المنطقة في سنة 2018.
التحول التركي نحو القوة الخشنة تقف وراءه عدة عوامل أهمها أن التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي، دفع أنقرة إلى بلورة رؤية تقوم على أن أزمات المنطقة مترابطة تخضع لحسابات المصالح والدور والنفوذ، وهذا ما دفعها إلى المشاركة في العمليات الجارية في المناطق المتوترة، لرسم الخرائط والمصائر، بدلاً من الوقوف في مقاعد المتفرجين كما حصل لتركيا خلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
السياسة التركية الخارجية، وتحديدا في الشرق الأوسط، كان لها استحقاقات وتحديات ظهرت في العام 2017، وهي مستمرة في العام 2018، أبرزها:
قضية القدس: فقد شكلت بعد الاعتراف الأميركي بها عاصمة لـ"إسرائيل"، ونقل السفارة الأميركية إليها، مناسبة للسياسة التركية في رفع سقف الخطاب الإعلامي والسياسي. إلا أن ممارسة مثل هذا الخطاب في السياسة دون خطوات عملية وإجراءات حقيقية أفقدت السياسة التركية المزيد من مصداقيتها في الشارع العربي، فقد أعلن أردوغان سابقاً أنه سيقطع العلاقات مع "إسرائيل" إذا ما قرر ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لكن مثل هذا الأمر لم يحصل، وهو ما جعل من قمة منظمة التعاون الإسلامي التي دعت إليها تركيا مجرد قمة عادية ليست بحجم قضية القدس التي تتعرض لخطر مصيري.
التوتر في العلاقة مع الإدارة الأميركية: وذلك في ظل رفض واشنطن التجاوب مع المطلب التركي الدائم بوقف دعم الأكراد بالسلاح والمعدات العسكرية. وهذا الأمر دفع انقرة للتقارب مع روسيا نتيجة مباشرة لتوتر العلاقات التركية - الأميركية، ما ساهم بتبني حكومة أردوغان مشروع روسيا المستقل عن المسار الأممي التفاوضي السوري - السوري في جنيف، والالتحاق بمسار آستانة الذي يجمع بين المتناقضين والمتواجهين في الصراع على سوريا.
وفيما يخص الشأن السوري و"الشبح الكردي": فلا شيء انتهى في سوريا العالق وضعها في دائرة "اللا حسم العسكري واللا حل السياسي". وبعدما أوحت روسيا أنها قبضت على زمام الحل السياسي وفتحت الطريق أمام مؤتمر سوتشي، وهو أول مؤتمر من نوعه بين المعارضة والنظام، أقدمت واشنطن على خلط الأوراق من جديد مع الإعلان عن تشكيل "جيش" كردي قوامه ثلاثين ألفا ومزوّد بأحدث الأسلحة لإحكام السيطرة على مناطق حدودية سورية مع العراق وتركيا الغنية بالثروة النفطية والزراعية. هذا التطور أشعل الغضب التركي الذي رأى فيه تهديداً للمجال الحيوي للأمن القومي التركي. فهو يتيح للأكراد السوريين التواصل جغرافيا مع نظرائهم في العراق وجنوب شرقي تركيا، علاوة على بناء عازل جيوسياسي بين تركيا وعمقها الاستراتيجي العربي. الأمر الذي سرّع في عملية تركية عسكرية للسيطرة على عفرين .
لكن، يبقى التخوّف الكردي من لعبة مصالح الدول الكبرى التي خسر فيها الأكراد مراراً، وربما لن يكون آخرها اجتماع الدول المجاورة لإقليم كردستان العراق لرفض الاستفتاء الذي أجري في الخامس والعشرين من أيلول الماضي، وأودى بمشروع الاستقلال. فالمصالح الأميركية - التركية متشابكة من جهة وجودهما في حلف شمال الأطلسي، وكذلك وجود قاعدة "أنجرليك" في تركيا، إضافة إلى التقارب التركي الروسي الكبير في الآونة الأخيرة، والذي قد يدفع الأميركيين لاستمالة حلفائهم التاريخيين، والتنازل عن الورقة الكردية لمنع تركيا من الارتماء في الحضن الروسي.
خليجيا: مع اندلاع الأزمة الخليجية بمقاطعة ثلاث دول خليجية بالإضافة إلى مصر لقطر، لم تنتظر تركيا طويلا لتعلن وقوفها إلى جانب الدوحة، وتوجيه الانتقادات لدول المقاطعة. وبالتالي فإن موقفها من الأزمة تجاوز العلاقة الثنائية مع قطر إلى ممارسة دور في أمن الخليج في إطار الانتقال إلى ممارسة القوة الخشنة، وهي رؤية تبلورت بشكل كبير على وقع الأزمتين السورية والعراقية.
لبنانيا: يبدو أن السياسة التركية تتجه إلى ممارسات تصب في صالح القوى المناهضة للسعودية في لبنان، وفي صلب هذا الموقف توجه تركي اقتصادي يتعلق بمشاريع الغاز والنفط في البحر المتوسط حيث يشكل لبنان نقطة أساسية في المشاريع المطروحة إقليميا.
وعلى صعيد العلاقات التركية – المصرية فهي تشهد توتراً بعدما فتحت تركيا واجهة لنفسها على البحر الأحمر عبر السودان، حيث قدم الرئيس السوداني عمر البشير الى أردوغان هدية إدارة جزيرة "سواكن" القريبة جدا من مضيق باب المندب الممر العالمي للملاحة المؤدي الى قناة السويس وذلك تحت غطاء إعادة بناء الميناء والاستثمار في الجزيرة لفترة زمنية مفتوحة الأفق. هذه الاتفاقية أثارت غضب مصر التي ما زالت علاقتها مع تركيا متوترة وسيئة بسبب تدخلات أردوغان في الشأن المصري الداخلي ودعمه للإخوان المسلمين وموقفه المؤيد لحكم مرسي والمناهض للثورة الشعبية التي حملت الرئيس السيسي الى الرئاسة.
من الواضح أن شهية أردوغان منفتحة على رائحة العظمة والنفوذ الإقليمي والتموضع الدولي. لكن، يبقى السؤال الأساس خلال سنة 2018 متعلقا بالعلاقة الاستراتيجية التركية الجديدة بمنظومة العلاقات التركية التقليدية المرتبطة بالحلف الأطلسي، وكيفية تأثير ذلك على السياسة الخارجية التركية التي تترنح على وقع التجاذب بين موسكو وواشنطن، فضلا عن متغيرات الداخل التركي التي تشكل الهاجس الأساس لأردوغان في كل حركة وخطوة منذ الانقلاب العسكري الفاشل في العام 2016.