ارشيف من :أخبار لبنانية
’ضحايا’ الحبوب الغادرة.. هكذا سُرقت منهم الحياة
للوهلة الأولى، يتبادر إلى ذهنك أن ما ينتظرك في مركز لتأهيل المدمنين على المخدرات، مشهد لشبان خارجين عن المألوف، بعيون مخيفة ربما، ووجه شاحب. لكن هناك في مركز "إحياء" للتأهيل، وسط جو طبيعي رائع، يستريح شبان بعمر الورود. غدرت بهم المخدرات فأعاقتهم عن الحياة التي يستحقون. يستقبلونك ببشاشة الوجه، وبعيون ملأى بالأمل. يلقون التحية باحترام، ويحدّثونك بحرقة عن تجربتهم المرّة التي حوّلت أجمل سنيّ حياتهم الى جحيم حقيقي.
بعبارة أدق، هم الضحايا الحقيقيون في عالم مليء بالذئاب. كانوا أطفالاً عندما وقعوا فريسةً لمواد مخدرّة، تنتشر في الشوارع وعلى مقربة من منازلهم وأمام أماكن لهوِهِم. في بلد يندر فيه وجود حديقة عامة كمتنفس للأطفال. وفي بلد تباع فيه المخدرات على جوانب الطرقات، أمام أعين المارة، والأطفال أيضاً. وعلى مرأى من دولة أدارت - عمداً - ظهرها لمناطق كاملة، تاركة شبانها وأطفالها ضحية تجار مجرمين، جلّهم معروف لدى أجهزة الدولة اللبنانية.
* على هامش لعبة "الفوتبول".. "أهدى" ابن الـ13 عاماً الحشيشة
فكيف لا يكون حسين (25 عاماً) ضحية، وهو بدأ رحلته مع المخدرات بعمر الـ13 عاماً. خرج الطفل - آنذاك - الى الشارع القريب من منزله مع رفيقه للعب الـ"فوتبول". رأى وصديقه شاباً يكبرهما سناً وهو يدخن مادة تبدو غريبة. اصطادهما الفضول. سألاه عنها، فـ"أهداهما" بخبث إحداها. "ما كنت بعرف شي عن المخدرات"، يقول حسين. ويضيف "سألتو شو بتعمل قال لي "هيدي بتخليك تصير انسان تاني"، أعطانا سيجارة أنا ورفيقي ودخناها، وحاول استغلالنا فصار يرسلنا الى بعض السيارات لإيصال المخدرات. في عمر الـ 15 - يتابع حسين - عرّفني الشخص نفسه الى مادة الكوكايين، وقال لي "الكوكايين بخليك تصير جريء".
بشيء من الندم، والكثير من الحزن يقول "عنما بدأت بمرحلة الحبوب، وصلت لـمطرح مسكر، صرت خاف لان "أوفرت" أكتر من مرة" (الأوفرة هي جرعة زائدة من المخدرات تؤدي الى الموت)، الباز أوصلني الى أسفل السافلين. وصلت لمرحلة سرقت أمي وأبي، وقمت بأمور لم أتخيل يوماً أني سأقوم بها. الباز هي من أبشع المواد، وكل ما تعاطيت منها كنت أشعر بحاجة للمزيد".
أمّا عن قراره ببدء العلاج، فيربطه حسين بالمرحلة التي اكتشف أهله فيها بأنه يتعاطى المخدرات. حاولوا إنقاذه ووعدهم غير مرة بالتوقف عنها "أكثر من مرة قمت بتنظيف جسمي "detox"، باذن الله هذه المرة أنا ناوي وقف لاني تعبت". يختصر الشاب بعبارة حكايته مع المخدرات: "قديه كانت حلوة قديه قلبت علينا نار وعذاب".
* بعمر الـ10 سنوات.. "أهداه" الحشيشة
باكراً جداً تورّط أمير. مشاكل قانونية تتعلق بأوراقه الثبوتية رافقته منذ الصغر، وتركت لديه أثراً نفسياً. بخجل كبير يحاول أن يحكي لنا قصته. يسعى للتعويض عن ارتباكه بالكلام من خلال القراءة عن ورقة دوّن عليها تجربته باختصار. كان عمره 10 سنوات حين فرّ من مدرسته للّعب في أحد الأحياء. وكما حسين، قام أحد الأشخاص الذين يكبرونه سناً بتقديم الحشيشة اليه كـ"ضيافة". وشيئاً فشيئاً تطورّ أمير في تعاطي المخدرات وصولاً الى الحبوب.
عمر أمير اليوم 22 عاماً. مرّت سنيّ حياته أمامه وهو غارق في متاهات حبوب مخدّرة أملاً منه أن تنقذه من مشكلته، فأغرقته أكثر واكثر في أزمات لا نهاية لها. وبعد أن اكتشف أهله بأنه يتعاطى المخدرات، ساعدوه في اللجوء الى مركز التأهيل "إحياء"، حيث وجد الأمان والكثير من المساعدة، التي يأمل أن تكون خلاصه من مخدرات أَسَرته، غدرت بشبابه.
* 37 عاماً من التعاطي.. صرف خلالها 3 ملايين دولار على المخدرات
تختلف سيرة محمد أبو حيدر عن سير الآخرين في مركز "إحياء". في السبعين من عمره، تعلو وجهه ابتسامة تُخفي الكثير. أمضى أبو حيدر 37 عاماً بتعاطي المخدرات. 35 عاماً منها يتعاطى الـ "كوكايين". وعامان من تعاطي الـ"باز".
يحاول الرجل وهو يروي قصته مع المخدرات أن يدمج "المزاح بالجد"، فطبيعته مرحة. يحدّثنا عن "أوّل غلطة" قبل 37 عاماً كأنها وقعت بالأمس. يتذكر تفاصيلها جيداً. كان مدعواً الى أحد الأعراس، ووقعت معه مشكلة. لجأ الى شرب الكحول. مرّ بحالة سكر شديدة، وتفاقم شعوره بالغضب. فقدم له في هذه اللحظات شخص ما مادة لونها أبيض. يقول أبو حيدر "قلت له ما هذه؟ قال تنشق. لم أكن فعلاً في حينها أعرف ما هي. شعرت بالراحة عندما تنشقتها. صار يبعتلي منها ضيافة. حتى علقت". فيما بعد اكتشف أبو حيدر أن ذلك الشخص ما كان سوى مروّج انتظر لحظة ضعفه حتى يوقعه بالفخ.
لم يصل أبو حيدر - والد لثلاثة بنات وشاب - إلى مرحلة القتل أو السرقة بغية الحصول على المال لشراء المواد المخدرة، فقد كان ميسور الحال مادياً. صرف 3 ملايين دولار على "حياة المخدرات". يقول "بعت الكثير من أملاكي بأبخس الأسعار. لم يشعر أحد طيلة حياتي أني أتعاطى المخدرات، فقد كنت أحاول دائماً تجميل صورتي أمام العائلة. عندما بدأت بمادة الباز لم أعد أشعر بالمسؤولية اتجاه عائلتي. أنا رجل عاطفي جداً، لكن عندما تعاطيت الباز، صارت تتصل ابنتي بي لتزورني، فأقول لها انني مشغول بالعمل، وأنا أكون مشغولاً بتعاطي الباز. وهذا الأمر أثر بي كثيراً. فقدت ثروتي وبقي منها القليل سلمتها لابني حتى لا تذهب كما ذهب ما قبلها".
"اكتشف ابني أني أتعاطى المخدرات، وكانت صدمة كبيرة جداً. عندما عرف أولادي أني أتعاطى صرت أشعر أني ذليل. لجأ ابني الى أحد الأشخاص، لإرشاده الى العلاج، وعندما سُئل لمن العلاج؟ قال لأبي.. وبكى"، يقول أبو حيدر وعيناه تجهدان لاخفاء تأثره "دموع ابني أثّرت كثيراً بي. صرت أخجل من نفسي".
خلاصة 70 عاماً من التجربة، يلخصها أبو حيدر بنصيحة الى الشبان "أتمنى على كل شاب أن لا يصل الى ما وصلت اليه. أشعر بالكثير من الندم. المخدرات فيها لذة آنية جداً، اكتشفت هنا في مركز التأهيل بأن لذة الارتباط بالله أكبر بكثير ولا تقارن. لقد كنت خارجاً عن النظام طيلة حياتي دون أن أدري. أخذني هذا المركز الى النور . أتمنى أن يهتدي جميع الشباب. حتى ما يوصلوا لعمري ويكونوا بالحالة اللي أنا فيها. يوجد شبان طيبون في ريعان العمر، يقعون في هذه المصيبة. لكن أن تأتي متأخراً خيراً من أن لا تأتي أبداً".
* "إحياء".. فكأنما أحيا الناس جميعاً
وسط الظلام الذي يغزو المشهد وأنت تستمع الى حكايا شبان سُرقت منهم الطفولة غدراً، ووقعوا ضحايا لتجار جشعين مجرمين، ودولة غائبة ومهملة - في أفضل توصيف - يشكل مركز "إحياء" للتأهيل شعلة نور تعوّض قدرًا يسيراً من غياب الدولة، جاهداً لإعادة هؤلاء الضحايا الى الحياة..