ارشيف من :آراء وتحليلات

الحل الفيتنامي

الحل الفيتنامي

في بداية العام، كما في بدايات كل الأعوام، يفتح الإنسان أوراقه القديمة، محاولًا إنقاذ المستقبل، أو سبر أغوار الأزمات المتتالية، التي تعصر أوطاننا العربية شرقًأ وغربًا، وفي كل تجربة لا يجد سوى كلمة واحدة يكاد التاريخ ينطقها: "المقاومة"، ذلك الفعل السحري، الذي بإمكانه –وحده- تغيير قواعد واقع مفروض على حال وطننا وأيامه.
في يناير –بالذات- تتألق تجربة فيتنام، وكأنها تباهي الأيام، وتطل تجربة جمال عبد الناصر، وكأنها المغدورة قبل أوانها، تنتظر من يمضي على الطريق، ويفتح التجربة لدراسة وطنية، تعقبها عملية تطبيق واسع للمثل والقيم التي حارب الرجل في سبيلها، كما فعل كل حرّ في العالم.
وكما تتقارب تجربتا "هو شي منة" في فيتنام، و"عبد الناصر" في العالم العربي، على أسس العدو الأمريكي المشترك، ورفض الكيانات المزروعة قسرًا، وقرب تاريخ وفاة الرجلين الكبيرين، "هو شي منة" في 2 سبتمبر/أيلول 1969، وعبد الناصر في 28 سبتمبر/أيلول أيضًا 1970، إلا أن النهايات كانت بعيدة ومتخاصمة.
رغم قيام فيتنام الشمالية بأعباء الحرب ضد الغرب، فرنسا منذ 1946، والولايات المتحدة منذ 1954، عقب هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو، إلا أنها استمرت في نهج المقاومة بالسلاح، حتى أجبرت الجيش الأمريكي على أن يرحل، وكتبت مع الهزيمة ذلّ العار على علم الولايات المتحدة، وحلفائها، للأبد.
وفي 23 يناير1973، قبِل الأمريكيون على وقع هزيمتهم العسكرية، التوقيع على اتفاق سلام مع جمهورية فيتنام الشمالية، لينهي أطول حرب خارجية مستمرة للأمريكيين، وينهي معها فصولًا من الفهم الخاطئ للسياسات الأمريكية، التي لا تريد على المستوى الخارجي إلا التابعين الأقزام.
كتب اتفاق السلام، بمداد الدم الحار، أن الأمريكي لا يعرف السلام، ولا يطلب السلام، ولا يحب السلام، إلا إذا علم أنه عاجز عن قتلك.
المفاوض الأمريكي الرئيسي في محادثات السلام كان وزير خارجيتهم الأشهر هنري كيسنجر، وحوّل الثوار الأبطال ثعلب السياسة الأمريكية إلى "فأر" يبحث عن مهرب، وأجبروه على التخلي عن حلفائه في فيتنام الجنوبية، مقابل السماح لجنوده بالخروج أحياء، فقط.
ويبقى أفضل ما فعله الفيتناميون، أنهم وبعد توقيع معاهدة السلام، وبشروطهم، شرعوا في مهاجمة فيتنام الجنوبية، التي كانت دولة عميلة للغرب، وأخضعوها بالكامل، عقب سقوط عاصمتها سايجون، في 30 إبريل 1975.
ولـ"كيسنجر" تاريخ طويل مع العرب، تاريخ ينضح بالسلام على الطريقة الأمريكية حين تجد من يهادن، وفي العام ذاته أيضًا، بعد حرب عربية كبرى ناجحة، كانت بداياتها باهرة ومبشرة، في أكتوبر/تشرين الأول، ثم تولى كيسنجر مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، تفريغ النصر العربي عامة، والمصري خاصة من مضمونه، استعدادًا لخطوة أكبر بإلحاق مصر بمحور الدول الأمريكية، عبر معاهدة العار "كامب ديفيد" مع العدو الصهيوني.
باعت مصر-السادات نصرها ونصر العرب بالثمن الخاسر، وخلال تقدم قوات (الفيت كونغ -جبهة التحرير الوطنية لجنوب فيتنام) كان السادات يصرح لكل من يقابله أنه لن يحارب الولايات المتحدة، ويؤكد أن الدبابات الأمريكية تنزل مباشرة إلى سيناء لمواجهة تقدم الجيش المصري، وتلك حقيقة، لكنها منقوصة، فمن قال ان من يرغب في تحرير أرضه سيخشى إمدادات أمريكية لطرف محلي، وسيتراجع مذعورًا أمامها؟
في الوقت ذاته الذي كان إعلام السادات يمهد لجريمة انسلاخ مصر عن أمتها، ويعد المصريين بالرخاء الذي سيحمله "الأمريكي الكريم"، من بعد التقشف الذي مثلته خطط التصنيع والتنمية، ويثير البوم الناعق على المنابر الخوف من أمريكا وسلاح أمريكا في يد الصهاينة، كان الفيتنامي الفقير يسقط السلاح الأمريكي بيد صانعيه أنفسهم، ويذيقهم ويلات الموت والأسر.
حوّل السادات، بمساعدة الحلفاء الجدد من بني سعود، وبدفع من تبعية كاملة للغرب تمثلت في معاهدة "كامب ديفيد"، نموذج التنمية المستقلة، الذي كانت ثورة يوليو تجاهد لإقامته في مصر، إلى نموذج اقتصاد الريع الخليجي المعتمد على ملكية البترول، لكنه في مصر اعتمد على نشاط العقارات وبيع الأراضي، فتحولت أخصب الوديان العربية إلى غابات اسمنتية، أفقدت مصر القدرة على الزراعة، وقتلت إمكانيات النمو والتركيم الصناعي، وتركت -ضمن ما تركت- مواطنيها أسرى للدعايات الغربية، ولرأس المال الأجنبي اللصوصي، وباعت –ضمن ما باعت- دورها العربي والعالمي، بدور لا يدري أن يقف وإلى أين يمضي.
الغريب أن الرئيس المصري الحالي، والابن الشرعي لنظام حكم كامب ديفيد، الذي دعا سابقًا إلى السلام الدافئ مع العدو الصهيوني، ذهب منذ شهور قليلة إلى فيتنام، ليدرس تجربتها في التنمية الاقتصادية بعد الحرب، وكذلك ذهبت السيدة سحر نصر وزيرة الاستثمار، والفريق مهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس، لمحاولة جذب الخبرة الفيتنامية إلى العمل بمصر.
هكذا يخبرنا التاريخ أن المقاومة فعل انتصار مكتمل، قرب المدى أو ابتعد.

2018-01-27