ارشيف من :أخبار عالمية

من حضن البغدادي الى الحضن التركي: تاريخ من الانهزامات 2-2

من حضن البغدادي الى الحضن التركي: تاريخ من الانهزامات 2-2

لم تقتصر مشاكل "هيئة تحرير الشام" الإرهابية والمنفصلين عنها على مجرد الخروج والانفصال، بل وصلت حد التراشق بين "شرعييها". وكان آخر هذا التراشق ما حصل بين المحيسني وأحد قياديي "الهيئة الشرعية" في "تحرير الشام" المدعو "أبو العبد أشداء"، في معركة كلامية على قناتيهما في تلغرام، تكشفت من خلالها العديد من الأسرار التي رافقت حقبة تشكيل الهيئة وصراعها مع "أحرار الشام".

التراشقات الكلامية كانت بدأت بين الجانبين بعد منشور لـ "المحيسني" على قناته دعا فيه "تحرير الشام" إلى "ردّ الحقوق" لـ"أحرار الشام"، في إشارة إلى إرجاع السلاح الذي استولت عليه "الهيئة" من "الأحرار" بعد الهجوم على مواقعها الأساسية منتصف العام الماضي.

وقال "المحيسني" في منشوره: "يا إخواني في هيئة تحرير الشام اتقوا الله وردُّوا حقوق إخوانكم الأحرار، قبل أن تذهب هذه الحقوق للنظام "النصيري" فنَعَض جميعاً على أصابع الندم ولات حين مندم"، حسب تعبيره.

وفي صوتية نشرها لاحقاً أضاف "المحيسني": "انعقدت الجلسات بين قيادة "أحرار الشا"م وقيادة "هيئة تحرير الشام"، فطلب "الأحرار" من "الهيئة" أن تردّ كل حقوقهم، بدءاً من الشريط الحدودي ومروراً بمعامل التصنيع ومعبر باب الهوى، وبعدها ارتضَتْ قيادة "الأحرار" أن تؤجل النقاش في قضية الشريط الحدودي ومعبر باب الهوى؛ لأنها قضية شائكة، واكتفت بالمطالبة بالسلاح الذي تدفع به العدو الصائل، وأهمها معامل التصنيع التي استولت عليها "تحرير الشام" من "أحرار الشام" ولا تستخدمها، بعد عدة جلسات متتالية، طلبت قيادة "الهيئة" من "أحرار الشام" أن تُقدِّم قائمة بالحقوق من أجل ردِّها، ويُكتَب بعدها بيان مصالحة بين الطرفين، واتفقا على أن ينفَّذ الاتفاق بعد أسبوع، ومر بعدها الشهر والنصف وتتساقط المناطق دون تنفيذه".

تصريحات المحيسني هذه أغضبت القيادي في "تحرير الشام" أبو العبد أشداء، فقام الأخير بشن هجوم على "المحيسني" ، وفضح بعض المداولات الخاصة بينهما، والتي أظهرت أن "المحيسني" كان مؤيداً عدم إعادة سلاح من ينشق عن "أحرار الشام"، وقام بجولات على مقراتهم من أجل إقناعهم بترك الأحرار والالتحاق بالهيئة.

وأكد "أبو العبد" أن "المحيسني" وأثناء وجوده في لجنة في الهيئة أقر "أبو الحارث المصري"، العضو الآخر في اللجنة، على فتوى مهدت الطريق للهجوم على "أحرار الشام"، ومفادها أن الأحرار "بغاة" وسلاحهم يعود "للهيئة" لأنهم نقضوا "البيعة". بالإضافة إلى موافقة المحيسني على فتوى أخرى تجيز الاستيلاء على سلاح المنشقين عن "أحرار الشام".

واتهم "أبو العبد" المحيسني بإجراء جولاته على مقرات كتائب تابعة لـ"أحرار الشام" من أجل إقناعهم بالانشقاق، كمقر "دانيال القناص" وغيره الكثير.

وذكر "أبو العبد" أن المحيسني كان من أشد الداعين إلى عدم السماح لـ"أحرار الشام" بالمشاركة في معارك حماة، التي دخلتها "تحرير الشام" عقب تشكيلها إلى جانب فصائل من الجيش السوري الحر، ورفضت وقتها مشاركة "أحرار الشام" فيها.

وشن "أبو العبد" هجوماً لاذعاً على "المحيسني" قائلاً: "يا دكتور أنت رجل تحب الإعلام وتبني تصوراتك ومواقفك بما يتوافق مع الصخب الإعلامي ومراحل حياتك شاهدة على ذلك، فقد كنت قبل هجرتك تمتدح طواغيت السعودية تماشياً مع الإعلام، ثم جئت إلى سوريا وأمنيتك أن تسير الأمة خلف أبي بكر البغدادي لأن إعلامهم غرك، ثم افتريت على جبهة "النصرة" في اعزاز وأعلنت مستبشراً قيام أول إمارة إسلامية لتنظيم "القاعدة" لأنك تريد جواً إعلامياً، ثم هاجمت "الهيئة" تماشياً مع الحملة الإعلامية ضدها"، وفق قوله.

هذه التراشقات الكلامية، والتي سبقتها مواجهات عسكرية بين جبهة الجولاني وفصائل أخرى، تلخص المشهد العام للأوضاع التي وصلت اليها "هيئة تحرير الشام". لقد قاد الجولاني جبهة "النصرة" في ضوضاء من تاريخ حافل بالانهزامات والانقلابات. منذ انقلابه الاول على البغدادي الى انقلابه الثاني على الظواهري، الى محاولات تصفيته لعدة فصائل، نجح في بعضها وأخفق في بعضها الآخر. لكن الثابت الوحيد بقي في خضم هذه الحراك كله، وهو انهزامه في ساحات المعركة أمام الجيش السوري والحلفاء.

صحيح أن الكثير من المعارك التي انهزمت فيها "الجبهة" أمكن للجولاني التملص من مسؤوليته عنها ورميها على الآخر، لكن ما حصل في معارك شرق سكة حديد الحجاز ( منطقة بين ارياف حلب وحماة وادلب) أسقط ورقة التوت عن الجولاني. فالانهيارات التي شهدتها هذه الجبهة، وهي جبهة عمدتها الاساسية جبهة "النصرة"، وصلت الى حد ٍّكاد الجيش السوري وحلفاؤه أن يصلوا فيها الى مدينة سراقب.
فالتفكك التنظيمي، وكثرة الانهزامات العسكرية، إضافة الى فقدان "الثقة" بينه وبين باقي الفصائل، كلها أسباب أدت الى ظهور الجولاني بمظهر يناقض بشكل فاضح كل الشعارات التي كان يتبناها. فقد حرص الجولاني، منذ تشكيله لجبهة "النصرة" على اختيار أسماء لجماعته توحي بالاستقلالية، وإعطاء الأولوية لانتمائه "الجغرافي". فأطلق اسم "جبهة النصرة لأهل الشام" على فصيله الأول، ثم جبهة "فتح الشام" على فصيله الثاني، وأخيرا "هيئة تحرير الشام" على فصيله الأخيره. ويضاف الى ذلك، ان انقلابه على "القاعدة" جعل عنوانه الرئيس هو اختيار الأنسب لمصلحة ما يسمى بـ "الثورة السورية".

لكن ما حصل مؤخراً، كشف الجولاني وأفقده أوراق المناورة التي كان يناور بها. صحيح أن العلاقة بين الجولاني وتركيا ليست بالجديدة، والجميع يتذكر أن الكثير من الهجمات التي شنتها جبهته على مناطق حدودية ضد الجيش السوري كانت تنطلق من الأراضي التركية، لكن الجولاني مع ذلك كان يبقي لنفسه هامشاً، ربما برغبة تركية في ابقاء هذا الهامش، لكن التطورات الأخيرة، من انهزامه في الجبهات، وصولاً الى اطلاق تركيا لعملية "عفرين" مع معرفتها بعدم قدرة الجيش الحر (درع الفرات) على حسم المعركة لوحده، وضعت الجولاني في الخانة التي كان يسعى لإخفائها، فلم يستطع رفض الدخول في المعركة ضد وحدات حماية الشعب الكردي، ما يعني تحول "هيئة تحرير الشام" الى فصيل (رسمي) من فصائل "درع الفرات".

وفي الواقع فان انخراط "هيئة تحرير الشام" بشكل رسمي في معركة عفرين سوف يعني مستقبلاً أمرين:

الأول: أن "هيئة تحرير الشام" لم يعد بوسعها رفض مقررات استانا، فالالتحام في ميدان معارك الأتراك وأجندتهم العسكرية سوف يحتم على "الهيئة" الالتحام مع التركي في الأجندة السياسية ايضاً.

الثاني: تراجع هامش المناورة عند التركي، اذ لم يعد بوسعه الادعاء بعدم "مونته" على "هيئة تحرير الشام" وبالتالي فسيصطدم التركي مع الروسي حول توصيف الهيئة، ففي الوقت الذي ترى روسيا - فضلا عن سوريا وايران - أن "النصرة" جبهة ارهابية، وسيكون 2018 عام تصفيتها، فإن تركيا تتعاون مع "الجبهة" وتغطيها وتسلحها فضلاً عن انها تزج بها في معاركها ضد الاكراد.

نعم، يبقى للتركي اللعب بورقة جماعات متطرفة أخرى، عبر السعي لتسويق الجولاني كطرف "سوري" قادر على ضرب جماعات "القاعدة" التي تنمو في جبل الزاوية ( ريف اللاذقية) مع اعلان الجولاني بشكل رسمي دخوله في حلول استانا. لكن يصعب تصور قيام الاتراك بخطوة كهذه (بشكل رسمي) قبل الانتهاء من معركة عفرين. بل وربما يمكن القول انه كلما تعقّدت معركة "عفرين" وصعُب الحسم فيها، كلما تراجعت امكانية مناورة الاتراك بورقة الجولاني.

فهل تدفع تطورات المعركة في عفرين بالاتراك للتضحية بالجولاني مقابل مكاسب في الملف الكردي؟ لا يُستبعد ذلك بحسب العقل التركي. لكن الكلمة الفصل في هذا الأمر ستبقى لسوريا وحليفيها الروسي والايراني خاصة وان الجيش السوري بات في وضع ميداني يسمح له بالحسم العسكري في أي بقعة جغرافية على الساحة السورية ولم يعد بحاجة لا لجبهة "النصرة" ولا لغيرها.


 من حضن البغدادي الى الحضن التركي: تاريخ من الانهزامات 1/2

2018-02-19