ارشيف من :أخبار لبنانية

عندما قصف آل سعود بيت الله الحرام

عندما قصف آل سعود بيت الله الحرام

جعفر البكلي

انطلق وميض ساطع من جبل أبي قبيس مصحوباً بأزيز عنيف، وسرعان ما دوّى انفجار هائل في قلب المسجد الحرام. ثم تتالى بعد ذلك دويّ الانفجارات التي تحطم أقدس مكان للمسلمين قاطبة. بدأ القصف السعودي للحرم، في الساعة الثالثة والنصف صباحاً. وظلّت نيران المدفعية تدك محيط الكعبة، بلا توقف، فالجنود السعوديون الذين اتخذوا جبال مكة مراكز لهم، سلّطوا مدافعهم عليها.

وحقيقةً، فقد كان ذلك الأمر مريعاً! فلم يسبق، في تاريخ الإسلام، أن تجرأ أحدٌ على قصف بيت الله الحرام، سوى ثلاثة: يزيد، والحَجَّاج، وآل سعود.
كانت خطة السعوديين تعتمد على استغلال عامل الظلام الذي يغرق فيه المسجد الحرام، وعنف المدفعية التي تدك مواقع المتحصّنين بالكعبة، وعنصر المفاجأة عبر تسلل وحدات «كوماندوس» تابعة لوزارة الداخلية خلسة إلى صفوف المتمردين للفتك بهم. واختار الأميران سلطان ونايف أن يهجم رجالهما، ويباشروا القتال من باب السلام الواقع شرقيّ المسجد الحرام. لكن من سوء طالع جنود آل سعود أنهم لم يجدوا في مدخل باب السلام نصيباً لهم من اسمه. فقد كان جهيمان العتيبي مع أنصاره يحرسون المسعى بين الصفا والمروة. وما إن فجّر السعوديون باب السلام، ودلفوا إلى المسجد حتى انهمر عليهم سيل من الرصاص، وتساقط رجال الكوماندوس بالعشرات في المدخل المزدحم بهم. وسريعاً ما لاذ بقية الجنود بالفرار من المكان، وهم يتساقطون صرعى، والرصاص ينهال عليهم من كل حدب وصوب.

 

«اهجموا يا رجال»

كانت هزيمة مخزية! مئات من جنود الحرس الوطني السعودي، معزّزين بمئات آخرين من القوات الخاصة في وزارة الداخلية، مدججين بالخوذات والدروع والمناظير الليلية، يلقون بأسلحتهم المتطورة على الأرض، ويفرّون أمام زمر من المسلحين. واعتبر الأمير سلطان الذي كان يراقب المشهد عن كثب، من فندقه المطل على ساحات الحرم، أنّ ما حدث، في تلك الليلة، عارٌ ما بعده عار. وأخذ وزير الدفاع السعودي يجري اتصالاته طالباً تعزيزات كبيرة من جنود الجيش. وسرعان ما وصلت إلى مكة، من المنطقة الشمالية في تبوك، كتيبة من المظليين. كان الوقت حينئذ قد صار فجراً، وخيوط الضياء الأولى بدأت تنسج أنوارها فوق المكان الدامي، والجنود القادمون مرهقون لم يناموا طوال الليل، ولا فكرة لهم عن سبب استقدامهم. وفوجئ قائد المظليين العقيد ناصر الحميد بوزيره الأمير سلطان يطلب منه أن يزجّ حالاً بأفراد كتيبته المنهكين، في أتون معركة حامية. ولم يكن الجنود الذين أتِيَ بهم على عجل يدرون أنهم جاؤوا إلى مكة ليقاتلوا، ولا أحد أطلعهم عن ماهية عدوّهم، ولا أعداده، ولا مواقعه.

والأنكى، أنّ الأمير القائد يطلب من الجنود أن يحاربوا على الفور من دون أن يوفّر لهم خطة واضحة للقتال، أو يقدّم لهم مجرّد خريطة صغيرة لساحة المعركة. كانت طريقة الأمير سلطان للحرب هي: «اهجموا يا رجال». وحاول ناصر الحميد أن يقنع رئيسه الأهوج بأن الأفضل لنجاح العملية العسكرية، هو تأجيل القتال إلى الليل حتى يتهيّأ الجنود ويستعدوا لتنفيذ ما يطلب منهم، ولكي توضع الخطة المناسبة للمعارك، وتتوفر المعلومات أكثر عن مواقع الخصوم، وأعدادهم، وتجهيزاتهم، عبر طائرات الاستطلاع. واعتبر سلطان أنّ ما يقوله الحميد هو الجُبن بعينه، وصفعه بعبارة: «أنت لست رجلاً»(¹). وأردف سلطان قائلاً له: «إذا لم تقد جنودك الآن، فأنا من سيتولى بنفسي قيادتهم إلى المسجد. وإذا متنا جميعاً هناك فسنكون شهداء».

بقي الأمير سلطان في فندقه، وتقدم المظليون وقائدهم ناصر الحميد نحو الموت. كانت الخطة السعودية العقيمة هي نفسها: الهجوم من مسعى الصفا والمروة. وفي هذه المرّة لم يكن جهيمان من تصدّى لهم، بل كان «المهديّ» بنفسه. ولقي قائد العملية السعودية مصرعه، منذ اللحظات الأولى، لدخوله المسجد الحرام. وتمزق جنود آل سعود، وهم يتخبّطون خبط عشواء، وكانت النتيجة كارثة. فلقد قتل في تلك الواقعة المئات من العساكر المساكين، ولم يحققوا أي هدف. وأمّا في المقلب الآخر، فقد كان النصر مؤزّراً.

وكانت الانتصارات المتوالية تؤكد لأتباع «المهدي» أنه على الحق، وأنه ما دام هو الذي يقودهُم فلا غالب لهم. ووقع كثير من المظليين السعوديين أسرى في يد أتباع «المهدي». وعندما أخبره الجنود الجرحى أنهم جاؤوا من تبوك في شمال البلاد، استبشر محمد بن عبد الله بذلك خيراً كثيراً، فقد كانت تلك علامة أخرى على «النصر الإلهي المرتقب». فالنبوءة النبوية عن المهدي كانت تشير إلى أن جيش أعدائه الذي يحاول مهاجمته، قادماً من البيداء، سيخسف الله بهم (²). واعتبر «المهدويون» أنّ وعد النبي قد تحقق لهم اليوم فعلاً، وأنّهم ما رموا إذ رموا «ولكنّ الله رمى». وصارت معنويات أصحاب «المهدي» في الذُّرى، وزادت ثقة محمد بن عبد الله القحطاني بأنه «المهدي المنتظر» حقاً، وأنه قادر على كل شيء.

كانت المعارك في قلب المسجد الحرام بمكة، طيلة الأيام الثلاثة الأولى، قد حوّلته، في أذهان أمراء آل سعود وجنودهم، إلى بقعة من الجحيم، ورغم كل محاولاتهم المحمومة لاسترجاع الموقع الديني الأقدس، فإنهم لم يقدروا على التقدم فيه شبراً واحداً. على أنّ الأمير نايف الذي عتّم على أخبار المعارك الدائرة في مكة يوماً كاملاً، وقطع الاتصالات الهاتفية المحلية والدولية عنها، اضطر أخيراً إلى أن يصدر بياناً قصيراً عن الأحداث الجارية. وقال بيان وزارة الداخلية الصادر بتاريخ 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 أنّ «زمرة من الخارجين عن الدين الإسلامي، اغتنمت صلاة فجر يوم الثلاثاء، وتسللت إلى المسجد الحرام، ومعهم بعض الأسلحة والذخيرة. وقد قامت السلطات المختصة بالسيطرة على الموقف». كانت تلك هي طريقة الأمير نايف في الاختباء وراء إصبعه.

 

ألغاز الشيخ ابن باز

طال انتظار أمراء آل سعود للفتوى التي تبيح لهم استخدام كل قدراتهم العسكرية للقتال في المسجد الحرام، حتى لو أدّى الأمر إلى تدمير أجزاء منه. لكنّ تلك الفتوى المنشودة لم تصدر، بالرغم من استعجال السلطات السعودية الشديد لها، وإلحاح الملك شخصياً في طلبها. ومما زاد في حرج مشايخ المملكة السعودية أنّ شيخ الأزهر محمد عبد الرحمن بيصار أخذ يزايد عليهم، وبعث برقية إلى الملك خالد يطالبه فيها باتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة لاسترجاع كعبة المسلمين المخطوفة. ووصل به الأمر إلى التهديد بالدعوة إلى عقد اجتماع عاجل لعلماء العالم الإسلامي من أجل حماية بيت الله الحرام. وبدت المزايدات المصرية مزعجة، ولم يَخفَ عن السعوديين عنصر التوظيف السياسي فيها، فقد صارت العلاقات بين البلدين فاترة، منذ أن قرر السادات شقّ «الاصطفاف العربي»، وعقد معاهدة سلام لوحده مع الإسرائيليين في كامب ديفيد. وقد أدّى ذلك إلى قطع العلاقات الديبلوماسية، وغلق السفارات في العاصمتين. وكان التلميح المصري بتدويل قضية الحرم المكي، وإخراجه من قبضة الوصاية السعودية أمراً بغيضاً لأمراء المملكة وعلمائها معاً. وبرغم كل هذه العوامل الداخلية والخارجية التي تستدعي الإسراع في إصدار بيان يجيز الحرب، فإنّ تلكؤاً غريباً حصل في اجتماع هيئة كبار العلماء، دام ثلاثة أيام كاملة.

 

من سوء طالع جنود آل سعود أنهم لم يجدوا في باب السلام نصيباً لهم من اسمه عندما قرروا الاقتحام منه

لعل السبب الرئيس لتلكؤ مشايخ السلفية هو الحرج الشديد الذي وقعوا فيه، فجعلهم لا يقدرون على اتخاذ قرار حاسم في النازلة الخطيرة التي استجدّت في مكة. ولقد كان بعضهم متورطاً بشكل غير مباشر في قضية جهيمان العتيبي. فهذا الأخير، ومعه محمد القحطاني وبقية أصحابهما، كانوا من التلاميذ المخلصين لأولئك الشيوخ، من أمثال ناصر الدين الألباني، وأبي بكر الجزائري، وعبد العزيز بن باز . وابن باز - بالذات- كان عرّاب جماعة جهيمان، وحاميهم، ومرجعهم، ومرشدهم الروحي، فلقد عملوا ودرسوا تحت إشرافه في الجامعة الإسلامية بالمدينة منذ أواسط الستينيات من القرن العشرين. وحينما كوّن جهيمان وأصحابه «الجماعة السلفية المحتسبة» بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد اختير ابن باز ليكون رئيسها (³)، وقبل الشيخ الضرير، وعيّن أبا بكر الجزائري نائباً له. وبقيت الصلة بين جهيمان وشيخه ابن باز وطيدة حتى بعد أن انشق جهيمان، في صيف سنة 1977 عن «الجماعة السلفية المحتسبة»، واستقلّ بجناحه الخاص فيها، واستقال من وظيفته في الحرس الوطني السعودي، ورفض شرعية حكام بلاده، وصار مطارداً، في البادية، من قبل السلطات المحلية نتيجة مواقفه الراديكالية. وكانت ورطة ابن باز، حينما وقعت أحداث الحرم المكي، تتمثل في أنه كان يعلم مسبقاً بنوايا تلميذه جهيمان، وعزمه على الإعلان عن ظهور «المهدي المنتظر»، والاحتماء بالمسجد الحرام. لكنّ ما جهله ابن باز، وغُيِّب عنه، كان قضية إدخال السلاح إلى الحرم، والقيام بالقتال فيه. وقبل أن يقوم جهيمان بفعلته، أرسل إلى شيخه الأعمى مبعوثاً خاصاً يعلمه فيه بخبر «المهدي» القحطاني، وقرب موعد خروجه إلى الناس بين الركن والمقام في المسجد الحرام، لتحقيق النبوءة المحمدية القديمة. ومع أن الشيخ ابن باز لم يقتنع بحكاية «مهدي» الجماعة، فإنه لم يشأ أن يبلغ السلطات عن القدر الذي عرفه من تآمرهم (4). وكان افتضاح هذا الجزء من القصة يعني أنّ ابن باز شخصياً مورّط، بشكل ما، في قضية جهيمان. وكانت تلك هي مشكلة ابن باز التي دفعته إلى الاضطراب، والتلكؤ عن إصدار فتوى القتال في المسجد الحرام.

 

مصرع «المهدي»

في يوم الجمعة 23 نوفمبر، صدر أخيراً بيان هيئة كبار العلماء في المملكة السعودية، والذي يجيز القتال في المسجد الحرام. واعتمدت فتوى ابن باز واخوانه، على آية في سورة البقرة: «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين». لكنّ هيئة ابن باز تمنّعت عن تكفير جهيمان وأتباعه، فوصفتهم بـ«المسلحين»، وأصرّ المفتون كذلك على وجوب أن يُمنحَ المسلحون فرصة أخيرة، عبر استتابتهم، ودعوتهم إلى أن يستسلموا، ويلقوا السلاح، فإن أبوا فعند ذلك يجوز قتالهم بكل السبل. ولقد كان شأن هذا البيان عجيباً، فلم يُعرف عن مشايخ الوهابيين أنهم يفتحون لمن يخالفهم كوّة للنجاة بأنفسهم! وعلى كل حال، فقد نفّذ الأمراء شرط المشايخ، فانطلقت سيارة عسكرية مصفحة نحو الساحات الخارجية للحرَم، في ليلة الجمعة 23 نوفمبر، وأخذ أحد الجنود في داخلها ينادي المتحصّنين في المسجد، عبر بوق، ليستسلموا. ومرّ وقت على النداء، ولا مجيب. فجأة شق سكون المكان أزيز صواريخ موجّهة بالألياف انطلقت صوب مآذن المسجد الحرام، فدكّتها. وتطايرت المنارات المحيطة بالكعبة في مشهد محزن.

اصطفّت مئات من ناقلات الجند المدرّعة المجهّزة بالأسلحة الأوتوماتيكية حول المسجد الحرام. وما لبثت الأوامر حتى أتت معلنة بدء الهجوم الشامل، فتقدمت المجنزرات الأميركية الصنع تطلق لهيبها على كل ما يعترضها: حجراً وبَشراً. وكان في بيت الله الحرام حشود من الناس، وكثير منهم لم يكونوا من أتباع جهيمان، لكنهم لم يجدوا وسيلة للخروج من المصيدة التي ألقوا فيها، فاحتمى الناس وراء أعمدة المسجد، بعد أن أوصدت عليهم أبوابه. وصارت أجساد هؤلاء البشر تمزقها نيران المدافع السعودية، فتتناثر أشلاء على الجدران، وتتفلّق رؤوسهم بالرصاص المتطاير على أعمدة الأروقة، وتسحق عظامهم تحت جنازير المدرعات، ولم تميّز النيران بين بريء ومذنب. فلقد قرّر حكام السعودية أن يقتلوا شعبهم، داخل بيت الله الحرام. وحاول إخوان جهيمان أن يصمدوا أمام الآلات المسلحة، ودار القتال بضراوة في كل متر من أركان المسجد. وكان بعض الإخوان يصعد فوق المدرعة بشجاعة نادرة، ويرمي في داخل فتحتها العلوية زجاجات المولوتوف، أو إحدى البطانيات المشبعة بالنفط ويشعل النار فيها، فتصبح كتلة من اللهب.

واستمرت معركة المسجد الحرام طوال الليل حتى انبلج صباح اليوم الرابع للحصار. وكان الطرفان يخوضان قتالاً دموياً شديداً. ورغم الفارق الشاسع في التسليح، فقد ظن أتباع «المهدي» أنهم لا يُهزمون. وكان هو بجانبهم يقاتل معهم كتفاً بكتف. بل إنه كان يأخذ على عاتقه القيام بالمبارزات الانتحارية، فلقد ظنّ حقاً أنه لا يموت. وحينما أخذ الجنود السعوديون يرمون آلاف القنابل اليدوية على أعدائهم، كان محمد بن عبد الله يلتقط كل قنبلة من الأرض، ويرميها على من قذفها. ونجح مرات في مهمته، لكن فجأة انفجرت فيه قنبلة، فسقط على الأرض يتلوى. فُجِع رفاقه، وحاول بعضهم أن يفتدوه بأنفسهم، لكنّ الرصاص حال بينهم وبينه. ودبّ الذعر بين «المهدويين»، وأخذت صفوفهم في الارتباك، وتراجع كثير منهم نحو القبو أسفل المسجد الحرام.


«هل مات «المهدي» حقاً؟!»، سُئل جهيمان. فأجاب بثقة مطلقة أعادت الحيوية إلى أصحابه المذعورين: «كلا، إنه لا يموت. وشأنه كشأن عيسى. وهو معنا، وسيظهر لنا متى أراد الله». أحيت كلمات جهيمان الأمل في نفوس اتباع «المهدي» من جديد. أصبحوا الآن متحصّنين في مكان أمين، ومستعدين لجولة جديدة من الفداء. وصارت ظروفهم أفضل، ففي القبو الشاسع المظلم لن تطالهم المدرعات، ولا المروحيات، ولا الطائرات. إنّ كل من يريد أن يقاتلهم، يلزمه أن يأتي بنفسه، وعلى على ساقيه للمبارزة. في المقلب الآخر، كان آل سعود يعلمون أنهم أنجزوا نصف المهمة حينما استرجعوا الطابق الأرضي والعلوي من المسجد الحرام، لكنّ المهمة الأصعب في القبو لا يبدو أنّ بإمكانهم أن يحلّوا معضلتها سريعاً. وإذاً كان لا بدّ من نجدة ما، تأتي إليهم من محلّ ما.

2018-02-21