ارشيف من :آراء وتحليلات

المتحدثون باسم جيش العدو

المتحدثون باسم جيش العدو

في عام 1956، أعلنت الولايات المتحدة، في بيان مهين لوزير خارجيتها جون فوستر دالاس، تراجعها عن تمويل السد العالي، الذي كان في تلك السنوات البعيدة حلم مصر القومي، وحل أزمات مجتمع ينتقل من علاقات شبه إقطاعية، إلى دولة حديثة، في إطار معركة استقلال كاملة، كانت تخوضها مصر-عبد الناصر، كرأس حربة لعالمها العربي والإفريقي.
الإعلام لأنه كان حكوميًا، وكان يقوم بدور التوعية الواجب على الدولة تجاه مواطنيها، لم ينخرط في حملات "سب" للولايات المتحدة، وتحرك من منطلق المصلحة الوطنية، التي تؤمن أن المواطن هو صاحب حق في معرفة التحديات الوطنية، فلم يخرج لتبرير رفض أمريكا والبنك الدولي تمويل المشروع، ولا استخدم الإلهاء والتسويف لصرف النظر عن حلم مصر الكبير، المصارحة كانت أساس الحديث الرسمي، وبالتالي وُضع الناس تلقائيًا أمام سؤال "ماذا بعد".
التعامل الإعلامي مكّن المصريين من اكتساح صدمة المفاجأة، التي وجدت مصر فيها قوتين عالميتين أمامها في ساحة القتال، بجانب الكيان الصهيوني، وكانت الاستجابة الشعبية المذهلة لدولة تعي دورها، وتعرف حدود أدوات القوة، وتراهن على المواطن، رد كامل على زمن صار "جواز السفر" هو حلم أغلب الشبان المصريين، بدفع من سيطرة كئيبة لطبقة رجال الأعمال، المرتبطة مصالحهم وأرباحهم بالغرب والصهاينة، على الإعلام.
خلال هذه الأيام يخوض الجيش المصري ما أعلنت الرئاسة أنها "حرب كاملة" ضد التنظيمات الإرهابية في سيناء، وتستخدم السلطة كل ما هو متاح أمامها لإقناع شعبها أن البلد في حال حرب، من أول البيانات العسكرية "المرقمة"، نهاية ببرقيات تأييد من مؤسسات الدولة للقوات المسلحة والشرطة.
مصر التي تواجه منذ سنوات طويلة، في سيناء بالذات، تهديدات إرهابية، كانت خافتة قبل 2011، ثم انطلق مارد الإرهاب من قمقم الكبت، إلى فعل صريح، يريد أراضي وربما "دولة"، في طرف البلد، حين كان حدث انتفاضة يناير 2011 يعمي أبصار الجميع عن الخطر، الذي تركته أنظمة كامب ديفيد ينمو ويستفحل.
خلال عهد مبارك الطويل، والذي كان الأخطر على سيناء، تعمد النظام المصري تلميع رجله القوي، اللواء حبيب العادلي، وزير الداخلية، عبر تقليل الحديث عن الخطر الكامن في شمال سيناء، وسمح للأموال السعودية المتدفقة على الجمعيات الدعوية، مثل أنصار السنة والسلفية، في تعزيز وجودها، وصناعة حاضنة شعبية، عن طريق استخدام المساجد التي تركها النظام أمامهم، في مقابل إبعاد أنفسهم عن السياسة - كان التمويل السعودي للسلفيين هو استمرار لدور المملكة الحاضن لتنظيم الإخوان في الستينيات، خلال صراعهم مع مصر عبد الناصر-.
الدولة المصرية التي تخوض حربها ضد الإرهاب، محرومة من صوت وألسن، فالقنوات الفضائية التي تم تركها لأباطرة المال والأعمال، هي التي تحمل لواء الحديث عن النظام في أحيان، لكنها ـ وفي كل الأحيان- تدافع عن مصالح ملّاكها، وتخلق مراكز قوة، تضغط على صاحب القرار السياسي، لمزيد من التراجع أمام سطوة حلفائه من أصحاب الأموال.
الجيش المقيد بـ"معاهدة العار"، يستكمل عملياته العسكرية، لاقتلاع الجماعات الإرهابية، التي تمثل مخلب قط لمن يريد التدخل في الشأن المصري، وهم كُثر، والدولة التي تخلت عن بعض وظائفها بعد المعاهدة، وسمحت أكثر فأكثر لطبقة وكلاء الخارج بأداء دورها، ولعل الدور الإعلامي الذي يحتاج ـ أكثر من غيره- لرؤية وأعباء مالية، كان غير مشجع للاضطلاع به، فتُرك لرجال الأعمال.
إعلام رجال الأعمال، الذي ثبت سقوطه وانكشافه في العديد من المواقف، لا ينطلق إلا من الربح كقيمة، وبالتالي فإن هواه دومًا مع الغرب الذي يمثل لطبقة الكمبرادور في مصر الأب والحامي والمنشئ.
لم يكن غريبًا أن تهاجم واجهات إعلامية، محسوبة زورًا على مصر، الجيش السوري وأبطاله، بعد إسقاط المقاتلة الصهيونية، فما يفعله إعلام طبقة المال هو تمييع الصراع مع كيان العدو والولايات المتحدة من ورائه، وتبني الرؤية السعودية تمامًا، والتي بدورها، كانت أكثر صهيونية من الصهاينة.
في برامج الفضائيات ومقالات الصحف ترددت النغمة السعودية ذاتها، اللعب على وتر الطائفية، وتزييف الوعي باستخدام المذهب، وهي لعبة سعودية صرف، وكأن مصر فجأة أنجبت عشرات من أمثال المتحدث باسم الجيش الصهيوني، يدافع عن العمليات العدوانية للكيان.
الطبقة التي تمثلها الوجوه الإعلامية الطافحة على الشاشات هي طبقة عملاء ووكلاء للغرب، نشأت كمقتضى وشرط لازم للانسحاب الصهيوني ـ الشكلي- من سيناء، واندمجت بفعل المصالح الاقتصادية لأقطاب النظم المصرية المتعاقبة مع صنّاع القرار، وانتهكت الشرف والدور المصريين في معركة عربية مصيرية، تخوضها سوريا ومحور المقاومة.
يقينًا فان كل مصري فرح وانتشى بمشهد سقوط الـF16 الصهيونية، وقطع الذراع الطويلة للكيان الصهيوني على أرض عربية، وخاصة أن ما يربط بين مصر وسوريا أعمق من أي رابطة بين المصري وبلد آخر، والانتصار السوري في جزء منه انتصار مصري، وإن كان على المستوى الشعبي الأقوى والأبقى.
 في أشد لحظات مصر انكشافًا أمام القوى المتصارعة على الشرق الأوسط وفيه، تثبت الطبقة التي نشأت بموازاة كامب ديفيد أنها خنجر في خاصرة الدولة، وأن للأدوار المنوطة بالدولة تكلفة لازمة، ولدخول دولة ما في حالة حرب شروطاً، ولا يمكن من غيرها أن يكون للتضحيات العسكرية الغالية في ميادين القتال معنى، بل ستكون وقتئذ أقرب لمظاهرة بالسلاح، لن يخرج منها خاسرًا إلا الوطن.

2018-02-27