ارشيف من :آراء وتحليلات
لماذا أقترع لحزب الله؟!
منذ ما قبل تأسيس هيكل النظام في لبنان، خلال الربع الأول من القرن العشرين، تعمّدت قوى الاحتلال الفرنسي والانكليزي زرع بذور الخلاف في الأقطار والمناطق التي تخضع لسيطرتها في سوريا ولبنان وفلسطين، سواء من خلال إنشاء نزعة الطوائفية والمناطقية أو من خلال تكريس حالة الزعامات العائلية والإقطاعية، وكان التقسيم العنوان الأساس الذي طبع المشروع برمّته، واستمرت هذا الحال بعد الإعلان عن سحب قوات الاحتلال من الأرض اللبنانية، واستبداله بنظام المتصرّفية والوصاية الذي أخذ، ولا يزال، أشكالاً متعدّدة، سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية وغيرها من مجالات التبعية.
وبعيد احتلال فلسطين وصولاً إلى زرع "إسرائيل" في الجسد العربي والإسلامي، واجه لبنان 3 أزمات متلازمة:
1. أزمة استيعاب مفاعيل التهجير الصهيوني للشعب الفلسطيني إلى الأراضي اللبنانية.
2. أزمة مواجهة العدوان الصهيوني على القرى اللبنانية وأطماعه في الثروات الوطنية.
3. أزمة التعامل مع المواقف الداخلية التي أفرزت انقسامات حادة حيال التعاطي مع المستجدّ الفلسطيني من جهة، ومع سياسة النأي بالنفس والتبعية للموقف الدولي من جهة ثانية.
وكان لا بد للبنان بمكوّناته المتشرذمة أساساً من أن يجمع أطرافه السياسية والاجتماعية باتجاه موقف جامع وموحّد حيال هذه التحدّيات، ولكن لم يتحقق هذا الإجماع بسبب وجود تمايز عضوي وجوهري بين الاتجاهات الراهنة آنذاك، فقد كانت هذه الاتجاهات قد بدأت تتمظهر بتيارات وأحزاب وفق عناوين مناطقية وطائفية وعقائدية واضحة، فكان للمسيحيين أحزابهم وكذلك الشيعة والسنة والدروز، ومعظم هذه الأحزاب والتيارات ارتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بقوى خارجية، وعبّر خطابها السياسي ومشروعها الداخلي عن تطلعات هذه القوى في مرحلة ما بعد إنهاء الاحتلال العسكري، ورؤيتها لتركيبة النظام اللبناني اللاحقة، والتي تبلورت فيما بعد في شكل حكم وحكومات لم تخرج بالشكل والمضمون عن هذه التطلّعات.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن التمايز بين الاتجاهات لم يكن غريباً أو طارئاً على رقعة الكيان اللبناني الذي رسمته حدود اتفاقية سايكس - بيكو، بل كان امتداداً طبيعياً للحركات والتنظيمات والتكتلات التي كانت تقف على طرفي نقيض، فهنا جماعة اختارت طريق الارتهان والتبعية وهنا جماعة اختارت طريق المقاومة والرفض، وكان من الطبيعي في ظل هذا التشكيل المتباين وصول هذه التيارات إلى مرحلة الاصطدام والخلاف الداخلي، في وقت كانت تتشكل بنى الكيان الإسرائيلي الذي حظي بالدعم البريطاني أساساً والأوروبي والأمريكي لاحقاً، وصولاً إلى مرحلة تمكين هذا الكيان من فرض وجوده كأمر واقع سياسي واقتصادي واجتماعي، فكانت الصورة المنشودة خلق هيكل لبناني مهتز داخلياً مقابل كيان إسرائيلي متماسك يتحكّم بمفاصل المنطقة ويحقق الأهداف الأوروبية والأمريكية.
لم يستتب الأمر أمام تحقيق الصورة في شقها الإسرائيلي، فعلى الرغم من الاهتزاز الداخلي اللبناني، إلا أن نشوء نهج المقاومة بهوياته المختلفة (الفلسطينية واللبنانية) حال دون استقرار الأهداف الغربية – الإسرائيلية، وصولاً إلى مطلع الثمانينيات التي شهدت وأد البندقية الفلسطينية وانتقالها إلى الجبهة اللبنانية، بعد أن تولّت "إسرائيل" المهمة المرسومة بشكل مباشر، وبعد أن أسفر الاهتزاز اللبناني عن ظهور سافر للأحزاب والتيارات التي انساقت خلف الخيارات الخارجية، وهي التي أنشئت منذ الثلاثينات للعب هذا الدور. وتجدّد الاصطدام الداخلي في لبنان مرة جديدة، ولكن بشكل أعنف وأشمل من ذي قبل في ظل حالة سقوط شبه شاملة للكيان اللبناني وقراره المستقل وصولاً إلى تسعينيات القرن الماضي مع وضع الحرب أوزارها وتوقيع اتفاق الطائف.
كانت المقاومة قد أثبتت، خلال هذه الفترة ولا سيما بعيد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بنهجها الممانع وأساليبها العسكرية والأمنية، وجودها ونجاعتها في ضرب المشروع الأمريكي - الإسرائيلي، وألحقت الهزيمة تلو الهزيمة بهذا المشروع في محطات متتالية، وبذلت في سبيل ذلك الآلاف من الشهداء والجرحى، وحازت على التفاف وثقة شريحة كبيرة من اللبنانيين يؤازرها في ذلك الجيش اللبناني بقيادته الوطنية، فتحقق الانتصار في عدواني تموز 1993 ونيسان 1996 وأنجز التحرير في أيار عام 2000، وكان لا بد والحال هذه من أن يكون للمقاومة مؤسساتها وتشكيلاتها الاجتماعية والتربوية التي أخذت على عاتقها "مواجهة الحرمان كما الاحتلال".
انخرط حزب الله في الندوة البرلمانية منذ العام 1992 وشارك لاحقاً في الحكومات المتعاقبة وحتى اليوم، وقدّم نموذجاً راقياً في هذا المجال، معتبراً أن هذا المنبر قد يشكّل واحداً من المنابر التي يوصل فيها صوت الناس وجمهور المقاومة إلى حيث يجب أن يصل، وحيث يكون له القدرة على التحدث باسمهم، آخذاً بعين الاعتبار أن وجوده النيابي والوزاري لن يقدّم الحلول الجذرية التي يطالب بها الناس لرفع واقع الحرمان والتهميش الذي عانوه منذ عشرات السنين، أي منذ تأسيس هيكل النظام في لبنان، ولكنه بلا شك يساهم في رفع جزء من هذا الحرمان التاريخي الذي كان يئن الناس تحت نيره، فكان نواب الحزب ووزراؤه بالقول والفعل الصوت الصادق الذي أعلن الموقف بلا مواربة، مع يقينهم بأن التركيبة السياسية اللبنانية لن تسمح لهم بالقدرة على تلبية حاجات الناس، فكانت القاعدة: "القليل خير من الحرمان".
استمرت المقاومة وتعاظمت عليها التحدّيات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاعلامية، وكبر الخطر مع تحالف قوى العدوان العالمي والداخلي على حزب الله، فمن الحصار المالي والتجاري إلى الاستهداف الأمني فالضغط الدولي على مفاصل الدولة اللبنانية بكافة مستوياتها للحيلولة دون تمكين حزب الله استيعاب ما يجري من تجويع للناس سواء عبر ضرب الاقتصاد اللبناني أم إشعال الحروب وافتعال الأزمات الاجتماعية والمعيشية، ولا سيما في المناطق التي تعتبر ظهيرة للمقاومة، وكان عدوان تموز 2006 وخلال كل هذه الحقبات كان حزب الله يتعرض للاستهداف في هويته وانتمائه الوطني وهو الذي دفع بخيرة شبابه إلى أتون النار في مواجهة قلّ نظيرها في التاريخ، ومجدداً انتصرت المقاومة في معركة السلاح وفي معركة الإنماء والإعمار، وانتقل الصراع إلى مسارات جديدة أخطر من ذي قبل، وباتت الحرب على المقاومة أكثر شمولية وأكثر وجودية.
لم يعد هناك بد من قوى التآمر الداخلية والخارجية إلا أن تكشف عن وجهها، في وقت بدأت إرهاصات تشكيل حلف عربي – إسرائيلي على أنقاض الأنظمة العربية التي تهاوت بفعل تداعيات ما سمي "الربيع العربي"، وكان واضحاً أن المخطط المرسوم يرمي إلى تعميم الفوضى في البلاد العربية والإسلامية، وساعد على ذلك فساد الحكام العرب أنفسهم، إلى أن وصلت نار الفوضى إلى سوريا، التي لم تتوان يوماً عن دعم المقاومة والقضية الفلسطينية، لا سيما أن مؤامرة اتهامها بالوقوف وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري فشلت في تحقيق أهدافها، فكان أن سلّطت المخابرات الأمريكية ذئابها من التكفيريين لينهشوا في الجسد السوري، ووقفت المقاومة مجدداً بتضحيات شبابها للدفاع عن موقع سوريا في معادلة الممانعة، وهي التي بقيت وحيدة وصامدة في هذه المعادلة وسط استسلام معظم الأنظمة العربية التي ارتمت في أحضان "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية.
لم تقف المقاومة لتدافع عن سوريا الدولة والنظام، بل ذهبت لتحارب جحافل التكفيريين وتقضي عليهم في الأرض السورية ومنعهم من الاستمرار في تهديد لبنان واستهداف المدنيين والمناطق الآمنة فيه، وكان للجيش اللبناني الدور المهم في القضاء على هذه الجماعات، وبذلك تكرست المعادلة الماسية: شعب وجيش ومقاومة، وكان نواب حزب الله ووزراءه في هذا الجانب يقومون بواجبهم في المجال المعنيين به، بناءً على توجيهات قيادة حزب الله، ومثّلوا هذا الواجب خير تمثيل من خلال مواقفهم وتحركاتهم الميدانية ورعايتهم للمشاريع الانمائية على تواضع الموازنات المقرّرة لهم من قبل الدولة، فلجأ حزب الله إلى التعويض عن هذا النقص من خلال فرز موازنات خاصة لرأب الصدع، وكل ذلك في سعي دائب لخدمة الناس والمستضعفين منهم.
أما ونحن اليوم في حمأة الصراع الانتخابي فلا شيء تغيّر في التفاصيل ولكن العناوين هي التي تغيّرت، فها هي تركيبة القوى التي نأت بنفسها منتصف القرن العشرين نحو القرار الخارجي، وأخذت موقف العداء من القوى الوطنية في الداخل، لا تزال نفسها التي تعمل على إذكاء نار الفتنة والتفرقة بين أفراد الشعب اللبناني بعناوين شتى. ولا شك أن الخطاب الفتنوي اليوم يمسّ واحداً من أهم الجوانب التي يعاني منها الناس، وهو الشأن المعيشي والانمائي مع اتجاه لتحميل نواب حزب الله المسؤولية عن التقصير، في حين يجدر التوجّه نحو الجهات التي تسبّبت بهذه المعاناة الراهنة والمتراكمة، والتي تعمل منذ عشرات السنين على إرساء واقع الحرمان، وسعت إلى إرهاق المجتمع اللبناني بالأزمات المتلاحقة لإبعاد الناس عن المقاومة، ولكن كل هذه الحملات لن تجدي نفعاً، فكما اجتمع كل العالم لكسر شوكة المجاهدين إلا أن المقاومة انتصرت، وستنكسر هذ الشوكة مجدداً من أي جهة أتت، لأن شعب المقاومة الذي قدّم الدم والتضحيات سيكون على قدر المسؤولية حين يستوجب الأمر ذلك، ومجدداً ستنتصر المقاومة، ولهذا سأقترع لحزب الله.