ارشيف من :نقاط على الحروف

قطارات الفقراء.. للموت سِرْ

قطارات الفقراء.. للموت سِرْ

أحمد فؤاد (صحافي مصري)

في غياب العدل، صار لحم الفقراء ممزقًا على قضبان سكك حديدية، في عرض متجدد من مسلسل الفساد الحكومي، وبموت العدالة –الواجبة والحاسمة- تمر كل حادثة جديدة بردًا وسلامًا على مسؤولين، لم يعودوا مسؤولين إلا عن تنظيم قوافل الموتى، المنتظرين دورهم القريب في مصر.
تصريحات حكومية ينكشف زيفها أمام أرقام مديونيات السكك الحديدية، خلال السنوات القليلة الماضية، الخسائر البالغة بضع عشرات من الملايين تضاعفت، بفُجر الفساد الحاكم، إلى مليارات بلا حساب، والأهم أنها لم تصرف من الأساس على المرفق المتهالك، وإنما ذهبت قبض ريح، لتفرض على الخزانة العامة أعباء جديدة وضخمة.
وزير النقل، المبتسم دومًا أمام فلاشات الإعلام، كان يزور نفس منطقة وقوع الحادث الأخير، في محافظة البحيرة، شمال غرب القاهرة، وظهر منحنيًا على قضبان السكك الحديدية، ويقيس المسافة بين "الفلنكات" بـ"الشبر" أو قبضة اليد المبسوطة، وكأن الوزير يخترع من الهواء مقاييس جديدة للمسافات، عوضًا عن الالتزام بأساسيات العلم المهدورة.

قطارات الفقراء.. للموت سِرْ
الفساد الذي يضرب السكك الحديدية ليس إلا نتاج دولة رجال الأعمال


الفساد الذي يضرب السكك الحديدية، في السنوات الأخيرة، ليس إلا نتاج دولة رجال الأعمال، أو ما يعرف بالاقتصاد الحر، الحر جدًا، لدرجة أنه يكاد يسرق وطنا كاملا، تحت لافتات براقة، يعشش فيها بوم الخراب، فمنذ أيام مرت ذكرى واحدة من أسوأ حوادث القطارات، التي وقعت في عهد الرئيس المخلوع مبارك، قطار الصعيد، الذي أكلت نيرانه 370 مصريًا، من طبقة لا يسمح دخلها بالسفر لمسافات طويلة، سعيًا وراء رزق ضيق في جنوب مصر، إلا بالقطار.
المفارقة تكمن في أن المرفق الأقدم في الشرق وإفريقيا، والثاني في العالم بعد بريطانيا، يمر بأسوأ سنواته، إهمال وفساد وتخبط إداري، أضاف لها المسؤولون بعضًا من فوضى الأرقام، لتُنتج في النهاية خليطا يؤدي فورًا إلى الخصخصة، وكأنها العصا السحرية المنقذة للمواطن.
ولا يمكن الحديث عن الخصخصة بمعزل عن دور هيئات السيطرة الدولية، فالخصخصة هي الكلمة المرتبطة بشروط صندوق النقد الدولي، في الدول التي تقع تحت مقصلته، بالتوازي مع حزمة البرنامج الإصلاحي، أو التدميري لو كان الناظر يقف جانب الشعب، وهي تحرير سعر الصرف، وترك الأسعار كليًا تحت رحمة المتعاملين، أو حتى المضاربين، وتقليص أعداد موظفي الدولة، وتقليل الدعم، أو ما يصفه جهابذة الحكومات بـ"إعادة توزيع الدعم"، وصولًا إلى غلّ يد الدولة بالكامل عن التدخل في اقتصادها!! والغريب أن الحكومات المستهدفة لا تعلم أن "خلطة الصندوق" لم تنجح على الإطلاق، في أي بلد.
مجلس النواب المصري أقرّ قانونا جديدا، يسمح بما لم يكن مسموحًا به، وهو إدخال القطاع الخاص شريكًا في إدارة وتشغيل وصيانة السكك الحديدية، من أجل رفع تكلفة وأعباء التطوير عن الدولة، كما حدث سابقًا حين تخلت الدولة عن الوحدات الإنتاجية الضخمة، أو تركة ثورة يوليو 1952 البهية، بأبخس سعر، فجرى تفكيك المصانع، وتشريد العمال، والتجارة في أراضيها الواسعة، لتحول المجتمع من طريق الصناعة إلى اقتصاد ريعي، على خطى الدول البترولية، ولكن تقوم الأراضي في مصر مقام البترول، وهو اقتصاد لا يصلح للبناء عليه، هذا إن أردنا مستقبلا بالأساس.
القطاعات الخدمية هي الهدف الحالي للمستثمرين، فالمصانع المصرية تم تفكيكها وبيعها، والأراضي تشهد قفزات فلكية في أسعارها، ولم يتبق سوى الهيئات التي تقدم الخدمات لعموم المواطنين بأسعار أقل من القطاع الخاص، وإن كانت المشاكل تجتاحها، كل فترة زمنية، مع ضغوط غربية واسعة للتخلص منها، بما لا يبرئ مسؤولين ورجال أعمال من تهم الإفساد المتعمد لمرافق الدولة.

السكك الحديدية تسبق في عرضها أمام الطبقة العميلة للأجنبي، قطاعي الصحة والتعليم، كقطاعات معروضة في السوق، وبعيدًا عن أية قناعة مسبقة بدور فعال للدولة، يقلل ويحجم مخاطر الانكشاف والتعري تمامًا أمام قوى السيطرة الدولية، ريثما يقوم نظام حكم يواجه ويقاوم ويضع شروطا بديلة، فإن الدستور المصري، الصادر 2014، يلزم الدولة بتقديم خدمات الرعاية الصحية والتعليم والدعم لعموم المصريين، وهو ما لا يحدث من الأصل.
قيام الدولة بإتاحة الفرص الاستثمارية أمام الرأسمالية المرتبطة بالخارج، التي تثبت يومًا بعد الآخر مدى وضاعتها، أو الالتفاف على الدستور وفصل الإدارة عن الملكية، كما يُطالب القطاع الخاص، توطئة للبيع، معناه انتهاك صريح وواضح ولا لبس فيه للدستور القائم من السلطة القائمة حاليًا على تنفيذه.

2018-03-07