ارشيف من :نقاط على الحروف
ماذا قال طفل حي ركن الدين الدمشقي لـ’العهد’؟.. عمر يستعيد وجهه الملائكي الذي أحرقه الإرهابيون
كانت الحروق قد أتت على كل ملامح الطفولة في وجهه، لكن كلمات قليلة قالها بلسان متثاقل هدّه الإعياء كانت كافية لإظهار الوجه البريء للطفولة المحروقة بقذائف الإرهابيين الذين أسرعوا بالطفل "عمر أوضه باشي".. إلى العالم الآخر، بعدما استهدفوه ورفاقه أثناء خروجهم من المسجد للعب الكرة، تلك الكرة التي ركلها عمر للمرة الأخيرة قبل أن تركله نيران الموت القادم من الغوطة إلى مشفى المجتهد الوطني حيث تحدث إلينا وهو في غمرة آلامه دون أن نعي حينها أنه سيكون الحديث الأخير بالنسبة إليه.
رحل الطفل عمر عن هذه الدنيا شهيداً.. مستعيدًا وجهًا طفوليا كان يملكه قبل أن يرسل الإرهابيون بريد موتهم إلى حيث كان يلعب في حي ركن الدين الدمشقي.
صاروخ الموت القادم من الغوطة
على قارعة مسرح الجريمة ألقى صاروخ كبير أطلقه الإرهابيون من الغوطة الشرقية عمر ورفاقه الأربعة أجسادا محروقة يتداول الموت والحياة عليها، آخر ما يذكره عمر أنه سمع صوت الصاروخ تلاه صراخ رفيقه موفق يطلب منه أن يغيثه، لكن عمر كان هو الآخر يحتاج لمن يمد له حبل النجاة بعدما سقط جدار محروق كامل على جسده الطري وقد كان له ذلك حين توقف على مقربة من أنينه المتصاعد سائق سيارة أجرة سيحمله بسرعة إلى المشفى مشغلا عداد السباق مع الموت الذي سيقبض ثمنه أجر المروءة وإغاثة الملهوف. في الطريق إلى المشفى سيأخذ السائق رقم أهل عمر منه لإخبارهم بما حل بولدهم لكن الهاتف سيرن كثيرا دون أن يرد عليه أحد، فالجميع في حضرة الله في المسجد وسيحتاجون بعض الوقت لمعرفة أن ولدهم عمر واحد من ضحايا الإرهاب الذي عصف بحي ركن الدين في تلك الجمعة الحزينة.
حديث بمثابة الوصية
استأذنا أم عمر في الحديث إليه فهزّت عينيها المنكسرتين والفائضتين بالدموع موافقة، لعلها كانت ترغب في الإطمئنان على صحته عبر طرف آخر محايد بعدما كان منذ بعض الوقت يحاول جاهدا وعبر أطهر كذب طمأنتها بكذب جميل وشى بأناقة بره الشديد بها حين راح يدعي أمامها التصبر والتجلد في حين ان آلامه كانت تحدث عن غير ذلك.
تكلم عمر لـ "موقع العهد" دون أن ندري أنه سيكون آخر عهده بالكلام، روى لنا عن خروجه من المسجد للعب الكرة مع رفاقه وكيف استحال الملعب إلى جحيم، حكى كذلك عن محاولته إنقاذ موفق ومحمد قبل أن تحول النيران فيما بينهم، سألناه عن الإرهابيين فشكاهم إلى الله دون أن يملك لسانه البريء فصاحة الشتيمة التي عادة ما تعتري المرء في خطب كهذه، ترك الأمر لأهله المتحلقين حوله فراحوا يرمون الإرهابيين بوابل من حمم المظلومية التي تفتح لأجلها أبواب السماء.
خلاصة ما قاله عمر بأن الجيش السوري سيقضي على الإرهابيين في الغوطة، بدا حديثة بمثابة الوصية التي وجدت من يسعى لتحقيقها ولكن بعد رحيله عن هذه الدنيا.
وانطفأ قمر عمر
لم يكن "عمر" يوحي بأنه عقد العزم على مفارقة محبيه سيما وأنه كان في منتهى الوعي والمسؤولية أثناء حديثه إلينا، لم تكد تمضي ساعات على مفارقتنا إياه حتى نزل خبر نعوته كالصاعقة على رؤوس الجميع، فقد تدهورت صحته على نحو مفاجئ ووقف الأطباء عاجزين عن فعل شيء، رغم توسلات امه وأخوته، وهكذا فقد ارتدى عمر آخر اثوابه البيضاء ملقيا عصا ترحاله الأخير في هذه الدنيا.
في المشفى وعلى مقربة من الجثمان الملفوف بالكفن تحدث إلينا أخوه حمزة دون أن يزيل نظره عن اخيه المسجى "سأذكره طويلا، كنا نلعب سوية، لم يؤذ أحدا في حياته، إنه شهيد". ويتساءل ابن خالته شادي "عن الذنب الذي ارتكبه أطفال خرجوا من المسجد ليلعبوا كرة القدم، ماذا فعلوا للإرهابيين حتى يجازوا هذا الجزاء؟".
أما ابن عمته أحمد فأكد لـ"العهد" أن قضية عمر هي"قضية وطن وليست قضية عائلة فقدت ابنها"، قبل أن يصل إلى استنتاج بدا بمثابة استحضار لوعي جمعي "يجب على الإرهابيين أن يسألوا أنفسهم عما يمكن أن يستفيدوه من قتل طفل بريء، علينا جميعا أن نتحمل المسؤولية، فقد باتت الصورة اليوم أوضح من أي وقت مضى".
أم عمر ستبدو كمن يحمل هم السنين وهي تجر قدميها وراء النعش وتبكي ابنها الشهيد الذي ودّع دمشق للمرة الأخيرة في سيارة إسعاف، قبل ان "يمشي" محمولا على الأكتاف خطواته الأخيرة نحو المقبرة حيث سيردم التراب على جسده المحروق، جسد تفلتت من قيوده روح عمر الذي انطفأ قمره في الحياة، لكنه ما لبث بعد استشهاده، أن استعاد وجهه الملائكي الجميل الذي لن تقدر على تشويهه بعد اليوم قذائف الإرهابيين.