ارشيف من :أخبار لبنانية

لعينيك.. أمي

 لعينيك.. أمي

إيمان مصطفى

غياب الأحبة يسرق منا كل شيء.. تجرحنا في غيابهم مواطن الذكريات.. الروائح والمناطق والتواريخ والأحاديث والأحداث.. وكل تفاصيل الذكريات..

فالفراق كلهيب الشمس.. يبخر الذكريات من القلب ليسمو بها إلى عليائها فتجيبه العيون بنثر مائها.. الفقد كطقس الخريف يجعل الأرض بلا سرّ.. فما بال الفراق الممتزج بالحنين وطيف الذكريات..

"استقبليني يا أمي.. البسي الأبيض.. انثري الورود والأرز وارفقيها بالزغاريد"؛ عند سماعنا لعذوبة تلك العبارات يخيل إلينا أنها خرجت من فم شاب ليلة زفافه.. ولكنها وصيته إلى أمه لتزفه بها إلى جنان الخلد نحو الشهادة..

وصية لم تغب عن بال والدة الشهيد علاء نجمة وهي تقف بين الجموع المحتشدة لاستقبال الشهيد.. لتستعيد تفاصيل الوصية، فجُلنا معها بعين القلب لنستذكر صوره المحفورة في أعماقها.. بصوتها المتقطع تستذكر شريط ذكرياتها معه.. "لم أكن أمه ولم يكن ولدي، بل نحن روحان تتعانقان في كل حين" .. لم ينفك يوصيني بالصبر وبكلام الحوراء زينب عليها السلام "اللهم تقبل منا هذا القربان"..

"ما أجملك تضاحك الكون بخضرة عينيك، وما أجمل شذى الورد الذي امتزج مع شذاك؛ أيها الفارس.. أنى لك هذا السكون؟ هل تستريح بفيء الشجرة من رحلة السفر الطويل؟ مشتاقة لضمك يا قلب أمك"... بهذه الكلمات تخاطب والدة الشهيد ابنها، وتتحدث عن رحيله الذي كان أقسى ما مرّ عليها.

كنت أنتظر عودته.. أسأله عن طعام يشتهيه لأحضّره له..  لطالما أجابني بحب وعطف "لحمة مشوية وطاووق".. إلا أن جوابه في المرة الأخيرة كان لافتًّا وكأنه ينبئني بأن ساعة العروج قد حضرت "أنا وين وإنت وين.. آخر همي هيدا الموضوع" تذكّرَتها عندما زفوه إليها شهيدًا.

لازالت أنامله توقظني كما كان يفعل دائمًا كلما عاد ليلا، فطالما كان يوقظني ويجلس قربي.. يحادثني ويسمع شكواي عن هم الحياة.. فقد توفي والده في وقت مبكر، فلم نجد حنانًا غير صدره يضمنا إليه، ففقد الأب خسارة للجدار الذي تستند إليه، ما يجعلك في مهب ريح لا ترحم.. إلا أن علاء كان الداعم لإخوته الصغار، تحمل المسؤولية كاملة.. أما أنا فلم يهن عليه يوما حزني.. كنت له كل شيء.. وكان لي كل حياتي..

 لم يخف عني سراً قط.. وعندما أخفى عني أمرًا للمرة الأولى كان في حلب عندما عرجت روحه إلى بارئها..

من راتبه الذي كان يسلمني إياه كل شهر بنيت منزلا له في "عدلون".. ولكنه لم يعر انتباهًا له ولم يهتم لأمره، كان مصداقًا لقول أمر المؤمنين عن الدنيا التي طلقها كمولاه علي(ع) زاهدًا بما قدمته له من ملذات، فلا زالت تلك الرسالة التي وصلتني منه ملاطفًا ماثلة أمامي "أمي البيت لك، أن لن أتزوج، زوجتي الحورية في الجنة بانتظاري".

كعشق يعقوب ليوسف عشقته.. وكأن أحدًا لم يسكن نبض قلبي سواه، ليس لأنه فلذة كبدي بل لأن "علاء" إنسان كان يجسد كل معاني الأخلاق والعطاء والأدب والتسامح والحب وقليل فيه أن أقول أنه مخلوق "استثنائي" فهو الابن والأب والصديق والأخ.. واليوم أنظر في الصور حتى تلقيني الذاكرة في أيام غاب وجودها وبقيت آثارها.. شققت بيدي زمنا أهواه ورحت أبحث عن بسمة لم تفارق وجهه يوماً..

كلما رميت بصري بين عينيه رأيت الجنة..

هذه كلمات تقولها الحاجة أم علاء بمداد قلبها.. هذا القلب الذي يناديه دائمًا.. ولسان حالها "تعال.. أي بني! نجتاز أسوار الفراق علنا نلتقي.. أخبروه أنه لم يفارق مخيلتي يوما.. أخبروه جيداً".

هل أتاك العشق بصوت الراحلين؟.. كم من الصعب أن نتخيل أصوات من نحب، نتلفّت.. فلا نجد جواباً.

كان ذلك النور الذي يتطوَّف في مدينتي، فرحل وتركها مظلمة، مقفرة، ولمّا يزل شوقي إليه يلاحقني في كل الدروب، هنا عبرنا.. هنا تبادلنا أطراف الحديث.. هنا جمعتنا صور محفورة في حنايا الذاكرة.. عطرها لا ينسى..

لا زال أحمد نجمة الليل التي ترشدني إلى الطريق.. ولا زالت ألطافه تمسح على قلبي.. لا زال سؤاله عني يجتاح مخيلتي.. أشعر به في أيامي، يراقبني في حديثي عنه، ويبتسم بأسلوبه الخاص الذي عرفه كل ما عاش معه..

لا أجد عبارات لأحيط به، فهو يحتاج إلى كلام من نوع آخر، من عليائه إلى حيث ينتمي الآن..

والدة الشهيد أحمد مشلب لم يزدها الغياب إلا حباً وشوقاً.. تتحدث عن ولدها الذي لامس معنى السعادة في دنياه ورحل.. تتمنى لو أن حياتها معه شريط فيلم تعيده كلما انتهى..

"علاقتي بأحمد ليست عادية.. كنت أمه ومحور حياته وملجأه وأمانه وصديقة أسراره.. وهو كان بالنسبة لي الطفل المدلل والشاب الذي افتخر به وأشاركه أفكاري، كان الملجأ لي في شدائدي ومؤنسي وسلوتي"..

من يعرف أحمد جيداً يعرف أن مَن مثله لا يموت إلا شهيدًا.. قلبه كالثلج وقبضته كالعاصفة التي تسبق ذلك الثلج المنهمر..

"لطالما كان يتواصل معي وهو في عمله، يطمئن علي، ولا ينفك يسألني عن أحوالي إذا ما أصبت بوعكة صحية مع أنني أكون قد نسيت الأمر"، ومع اقتراب عيد الأم تستذكر والدة الشهيد اهتمامه الخاص بهذا اليوم "منذ نعومة أظافره كان يدّخر مصروفه قبل أشهر من المناسبة ويتواصل مع صديقتي ويخبرها عن نوع الهدية التي يريدها فتحضرها له"..

وكلما كبر.. نما بداخله اهتمامه بهذا اليوم، فعندما كان في الـ 16 وضع صورتي على لوحة خشبية رائعة وبمقاس كبير وعلّقها على حائط غرفته.. لأكون أول من يراه عند استيقاظه وآخر من يودعه قبل أن يغمض عينيه ليلا..

والآن، وقد غفا أحمد إلى الأبد، أصبح عيد الأم خاليًا منه بعد أن كان يحمل كل معاني العاطفة والحب والحنان..

"بني لماذا تشتري كل هذه الثياب وتلك الأحذية؟"، فيجيبها "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".. عاش الدنيا بتفاصيلها وعمل لآخرته..

وبضحكة ممزوجة بالأسى تقول أم الشهيد " كنت في طفولته أداوم في محلات ثياب وأحذية كرة القدم.. فمنذ صغره عشق الرياضة وخصوصا كرة القدم ومارسها وكبر وكبرت تلك الهواية"..

وقصته مع الصور التذكارية رواية لا تنتهي.. في كل مناسبة وعند كل "مشوار" وبكل منطقة وفي كل مشهد "حلو"، لأحمد وقفة مع الصور..

وآخر ما تقوله والدة الشهيد أحمد أنها تراه جاءها على غرار نسمة الصباح الأولى ورحل.. رحل من عالمي تاركًا ذكريات لا تنسى، مع باقة من الصور المنثورة، ومضى..

2018-03-19