ارشيف من :نقاط على الحروف
برنامج حزب الله الانتخابي.. الرسالة المفتوحة الثالثة
في عام 1985 أعلن حزب الله عن تشكيله الرسمي في بيان تلي آنذاك، عرف باسم "الرسالة المفتوحة للمستضعفين"، وكانت الرسالة بمثابة الوثيقة الرسمية التي تعبر عن نهج حزب الله ومشروعه السياسي بوصفه حركة جهادية هدفها الأساس دحر الاحتلال الاسرائيلي.
وفي التاسع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2009 ( بعد 24 سنة من الرسالة المفتوحة) اصدر حزب الله بياناً أعلن فيه ان المؤتمر العام للحزب أقرّ "الوثيقة السياسية" التي تعبر عن توجهات الحزب السياسية بعد سلسلة المراجعات والقراءات للتجارب السابقة من الانخراط في العمل السياسي الداخلي.
يمكن القول إن الوثيقة السياسية جاءت متأخرة مقارنة بتسع سنوات فصلت بين الوثيقة (2009) والتحرير(2000)، اذ مع انتهاء مهمة التحرير كان من المتوقع أن يسرّع الحزب من عملية تقديم رؤيته السياسية لمرحلة ما بعد التحرير، خاصة وأن الحزب كان يعتبر أن مهمته الاساس هي التحرير وقد أنجزت.
ومنذ صدور "الوثيقة السياسية"، انخرط حزب الله في كثير من القضايا، منها ما هو انخراط عسكري كبير ومباشر(سوريا) ومنها ما هو انخراط عسكري محدود في مجال التدريب والاستشارات (العراق)، ومنها ما هو انخراط في مجال المواقف السياسية والاعلامية الداعمة والتي تمليه عليه، بحسب تعبير الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، المبادئ الاخلاقية والدينية (اليمن والبحرين).
لقد أدت هذه الانخراطات في أزمات المنطقة الى وقوع سجالات داخلية متتالية بين مؤيد ومعارض. في الصف المعارض، أخذ هؤلاء على الحزب "غرقه" في الشؤون الإقليمية وابتعاده (أو زهده) عن الحياة السياسية الداخلية الى حد نزعوا عنه صفة "اللبنانية". وبعيداً عن الاهداف والغايات والنوايا من هذه الشعارات والمآخذ، فان الاطراف المدافعة أو المتفهمة لهذا الانخراط الاقليمي، ربما اتفقت (من غير قصد) مع الأطراف المعارضة حول مبالغة الحزب في زهده وابتعاده عن تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية.
لم تكن الاصوات الداخلية (سواء داخل التنظيم او داخل المحور) الداعية لانخراط اكبر للحزب في السياسة المحلية أصواتا جديدة. اذ تمتد الى سنوات خلت تعود الى ما قبل التحرير. الا أن قيادة الحزب، بدأت بإعادة النظر، او فلنقل بالتفكير بضرورة اعادة النظر، في سياساتها الداخلية مع تصاعد الحرب الناعمة التي تشنها الولايات المتحدة الاميركية عليه، ثم انخرط فيها عدد من الانظمة العربية بشكل مباشر.
ورغم هذا الابتعاد او الزهد في الحياة السياسية اللبنانية الداخلية، فان حزب الله لم ينجُ من سهام الاتهامات المفبركة حول ملفات الفساد، أو على الاقل تحميله مسؤولية انهيارات اقتصادية يعلم الجميع براءته منها، مثلما يعلمون اسماء الاطراف المسؤولة عنها، وهي الاطراف نفسها التي هيمنت على الحياة الاقتصادية اللبنانية منذ اتفاق الطائف الى اليوم.
خلال صراعه العسكري والامني، أظهر حزب الله مهارات فائقة في تحويل التهديدات الى فرص، وغالبا ما كان يؤخذ عليه هذا الفارق والهوة الكبيرة بين الاداء العسكري والأمني والأداء السياسي. ويبدو أن الحزب قرر اخيراً تطوير أدائه السياسي الداخلي، ومحاولة تحويل التهديد الاقتصادي الى فرصة. لكن ما هو هذا التهديد، وما المقصود من الفرصة؟
إن ملفات الفساد والتدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر، وانتشار المخدرات، ومشاكل التفكك الاسري، وارتفاع معدلات الجريمة، وتراجع مستويات الزواج، ومظاهر الانحلال الاخلاقي داخل المجتمع، والتضخم الاقتصادي وزيادة العجز وازدياد المديونية، هي مشاكل متعددة تطال غالبية الشعب اللبناني، لا سيما الطبقات المسحوقة والمتوسطة منها. وهي ادوات من مجموعة ادوات الحرب الناعمة التي تشنها اميركا على الحزب، واذا ما أردنا أن نضيف الى ما تقدم الاجراءات الخاصة التي اتخذتها الادارة الاميركية بحق شخصيات ورجال اعمال، واستمرار تسليط سيف العقوبات على كل شخصية تنتمي الى هذا التيار فكريا وعاطفيا وان لم تنتمِ اليه تنظيمياً، فإننا سنجدنا أمام حرب تستهدف كل بيئة الحزب.
أمام هذا الواقع، لا يمكن لحزب الله، بحال من الاحوال، ان يقف موقف المتفرج، ولا أن يبقى زاهداً في الحياة السياسية الداخلية. واذا كان الحزب قد قدم، فيما قدم، من مبررات حول سبب تشكيله للقطعات العسكرية المقاومة لطرد الاحتلال، غياب الدولة وعدم قيامها بمسؤوليتها، فانه، ومع ما يعتري النظام السياسي في لبنان من مشاكل، ومع استمرار حالة الفساد بل وازديادها، فان المطلوب من الحزب ان يمارس "منطق المقاومة السياسية" ايضاً في تصحيح هذا النظام وفق نفس المبررات التي حتمت المقاومة العسكرية.
لقد جاءت الانتخابات النيابية المزمع اجراؤها، وما رافقها من حملات وحروب ناعمة ضد المقاومة، لتسرع من حركية الحزب في التعامل مع الازمات الداخلية. واذا كانت الاحزاب الاساسية الاخرى، لا سيما تلك التي تجهر بالعداء للحزب وتنخرط في المشروع الاميركي في استهدافه، وهي المعروفة بأنها تقف خلف هذا الكم الهائل من الفساد، اذا كانت رغم تاريخها "الاقتصادي" الاسود، تحمل ورقة الفساد لتحارب فيها من هو منه براء، فان ذلك يمثل الفرصة السانحة للحزب.
ان المتتبع لآليات الحروب الناعمة وأدواتها يدرك تماماً أنها أدوات ذات استعمال مزدوج. وغالبا ما تكون أسلحة الحرب الناعمة هي أسلحة يقدمها الطرف المستهدَف لعدوه دون قصد. ويمكن بسهولة ملاحظة أن هذه الاسلحة بعينها قد يستخدمها الطرفان المتحاربان، وأن القضية الاهم تتعلق بكيفية استعمال هذا السلاح، وبتوقيت استعماله.
منذ أشهر مضت بدأ حزب الله خطوات عملية يسعى من خلالها لنزع "اسلحة ناعمة" من يد عدوه، عندما اطلق حملات متعددة تتعلق بمكافحة المخدرات، كما أطلق حملة ما يسمى "ضاحيتي اجمل" في اطار التحسين الجمالي والخدماتي للضاحية الجنوبية، وهي خطوات تبدو دفاعية في اطار الحرب الناعمة. الا أن هذه الحملات، على أهميتها، لا يمكن أن تتصف بالنجاعة ما لم تعالج الامور المعيشية الاساسية في لبنان، والتي لا يمكن أن يعالجها الحزب، بل تحتاج الى معالجات من الدولة.
والان نعود الى السؤال: ما المقصود من التهديد وما المقصود من تحويله الى فرصة؟
اما التهديد فهو تلك الحملات الكبيرة التي شُنت على الحزب على خلفية الانتخابات، والتي أرادت تحميله أوزار التدهور اللبناني منذ العصر "الفينيقي"، مع مفارقة هامة أن من يوجه الاتهامات هي تلك الفئة الفاسدة والمتغلغلة في النظام اللبناني والمهيمنة على مفاصله الاقتصادية.
نعم يمكن الاستفادة من هذا التهديد عبر استعماله كـ"سلاح ناعم" في محاربة مشروع الهيمنة الاقتصادية المفضي للهيمنة السياسية، والمستهدِف لعموم اللبنانيين ومنهم بيئة المقاومة.
ان محتوى الورقة التي قدمها الأمين العام حزب الله السيد حسن نصر الله، تحت عنوان "البرنامج الانتخابي لحزب الله" هي اكبر بكثير من مواصفات برنامج انتخابي. هي "وثيقة اقتصادية اجتماعية" لا تقل اهمية عن "الوثيقة السياسية" التي اطلقها عام 2009 لتقديم رؤيته السياسية المتعلقة بلبنان كوطن نهائي. والوطن النهائي يستلزم "اجتماعا نهائيا" "اقتصادا نهائيا" وعدلا نهائيا" و"تربية نهائية"، والا فلا دولة ولا وطن. فأي دولة وأي وطن يمكن أن يقام دون اجتماع واقتصاد وعدل وتربية، وكل ذلك لا يمكن بناؤه في ظل فساد مستشرٍ، وعدل غائب. ليُطرح السؤال الأهم عندئذ: ما قيمة المقاومة المسلحة اذا طردت المحتل من الباب فدخل من الشباك.
لقد ادرك حزب الله، أو فلنقل كان يدرك لكنه قرر أخيرا العمل، أن المقاومة التي تحرر لا يمكن لها ان تجلس جانبا مع وجود منظومة فاسدة متغلغلة في لبنان. وأدرك أن التحرير صنو البناء، وان المقاومة التي تحرر ينبغي لها أن تبني. لان البناء يمثل حماية لمنجزات التحرير، وحفظاً لحقوق وجهود وتضحيات المقاومين. وأن محاربة الفساد مساو في أهميته لمحاربة الاحتلال. وانه اذا استطاع، على الاقل، أن يحد منه، عندها يمكن القول: "لبنان قام حقا قام".