ارشيف من :آراء وتحليلات
انتخابات بلا شعب
أحمد فؤاد (صحافي مصري)
انتهت أيام انتخابات الرئاسة المصرية، وكأن الأيام استجابت لآمال المصريين بسرعة الخلاص من المشاهد المركبة والصعبة في آن، التي تُذكر بعنف بسيطرة الفقر والجهل على الواقع المصري، وتصدم في مقتل بحقيقة غياب كامل للسياسيين، من النظام والمعارضة، عن الشارع.
دور "ندّابة المآتم" لن يضيف شيئًا في وطن منكود بغياب مشروع للمعارضة أولًا وقبل أي شيء، رغم كثرة الفئات التي تدعي المعارضة، وتحليل الواقع الحالي للشارع المصري، بعمق وكفاءة، يجب أن يبتعد عن الخلط بين القلق اليائس ومسببات الأزمة.
الرئيس الحالي، والمقبل، عبد الفتاح السيسي، سيفوز كما خطط، والأرقام في يد لجنته العليا الوطنية للانتخابات، القائد العسكري يحب هذا النوع من الانتصارات بلا معارك، التي ترتب أثمانًا، لكنه الفوز بطعم الهزيمة، فما جرى في الأيام الثلاثة للعملية الانتخابية، أصاب شرعيته في مقتل، حجم الانتهاكات كان ضخمًا، واستخدام السلطة كان عنيفًا، وما وجهه من نقد لجماعات الإسلام السياسي، والإخوان في القلب منها، ارتكب أضعافه ليظفر بالسلطة مرة ثانية.
قبل أسابيع من انطلاق العملية الانتخابية، كان الجميع ينتظر نسبة المشاركة، كحكم على شعبية الرجل، والتي وحدها تمنح لحاكم - بلا إنجاز- شرعية الاستمرار، بعد أن تجنب الرئيس ـ في ذكاء- مقترح بعض البرلمانيين المؤيدين له بتمديد فترة الرئاسة لستة أعوام، بدلًا من قصرها على 4، محاذرًا من الانزلاق وراء فخ "نعم ولا" على تذكرة الانتخاب، كونها ستكون وسيلة الحشد ضده، وستوحد خطاب المعارضة، وهو ما جعله يرفض دخول الانتخابات وحيدًا لنفس السبب، مفضلًا الاستعانة برؤساء أحد "الأحزاب الكرتونية"، ممن تربوا في حضن جهاز أمن الدولة سابقًا، الخيار الذي جعل من المعارضة أمام طريق واحد هو المقاطعة، ووقتها خطط لحملة تدفع بالمواطنين إلى اللجان لتأييده، وهو ما ينطبق على حملة عسكرية بسيناء، انطلقت وانتهت بلا نتائج واضحة، اللهم إلا أغنية، استخدمتها القنوات الحكومية بكثافة، لمحاولة بث مناخ حرب حقيقية.
جاءت صور اللجان الخاوية كدليل لا يقبل الشك على قطيعة حادة بين الشارع والقصر، وعكست مواقع التواصل الاجتماعي، التي تضج بالشباب الرافض، صورة أخرى لأزمة النظام، المفتقد للتأييد سوى من طبقة أصحاب الأموال، وتحتها طبقة من البرجوازية المحلية تتربح من الطبيعة الاحتكارية للسوق المصرية، ويهمها استمرار الوضع الحالي، كأفضل مناخ للتكسب، بلا رقابة حكومية على الأسواق، أو بديل أمام المستهلك.
لم تفلح كل جهود النظام وأجهزته، ورجال أعمال ربطتهم المصالح باستمراره، في تجييش المواطنين أمام اللجان وصناديق الاقتراع، وفشلت الحملات ـ المدفوعة الثمن- في حمل المصري العادي على المشاركة في عملية انتخابية، يرفض الضمير الوطني شرعنتها، وكان الحل في اللجوء للرشوة الانتخابية، ممثلة في سلع غذائية موزعة على الفقراء، فيما تكفل إعلام النظام، وإعلام الطبقة المسيطرة في حشد من يخشى على مستقبل، غير واع بمن تسبب في كل هذا القلق في المستقبل.
الحديث عن التجاوزات أصبح معروفًا، بداية من خرق الصمت الانتخابي، حتى أمام اللجان، وصولًا إلى التهديدات العلنية لموظفي الدولة، لإجبارهم على الذهاب للجان، مرورًا باستخدام كل أجهزة الدولة للترغيب والترهيب، عقب كارثة اليوم الأول، التي ألجأت بعض المواقع المحسوبة على النظام لتزوير الصور.
لكن أزمة النظام الأعمق كانت في غياب الكتلة الحرجة، أو ما يطلق عليهم عقب ثورة يناير 2011 "الأغلبية الصامتة" أو "حزب الكنبة"، غياب هذه الفئة التي تصوت تقليديًا لمرشح الدولة هو خسارة السيسي الأكبر والأضخم، وهي التي تمنح إمكانية تصور حراك مستقبلي بالشارع، يظل مشروطًا بتوافر الظرف والتنظيم، لكنه يبقى أملًا، ترجم لإشارة في الاستحقاق الانتخابي الأهم، وقد يترجم قريبًا لحركة.
الأغلبية الصامتة هي التي منحت لثورة يناير شرعية من نوع خاص، حين رفضت مستقبلاً مشوباً بالشك مع الرئيس الأسبق مبارك، ثم عادت لتوازن الكفة، وتصل برئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، مرشح زمن "مبارك"، للإعادة مع مرشح الإخوان الرئيس السابق مرسي، رغم المزاج الثوري الذي سيطر على الشارع وقتها، واتفاق الإخوان الشهير مع نجوم القوى الثورية لدعم مرشحهم في جولة الإعادة، أو ما يعرف باتفاق فيرمونت.
سنوات حكم السيسي أورثت المصريين الديون والفقر وانخفاض قيمة الجنيه، وجرحت الكرامة الوطنية بالتنازل عن أراض مصرية للسعودية، وزرعت القلق في القلوب، وعمقت يومًا بعد الآخر الهوة المتنامية بين الأغنياء والفقراء، وتستفرد بالقرار السياسي في مطبخ ضيق عديم الكفاءة، وتطل منه وجوه إعلامية منفرة للغالبية الكاسحة من الشعب، ليبقى في النهاية السياسي صاحب أسرع تاريخ سقوط، حتى فيما حذر هو منه.