ارشيف من :نقاط على الحروف
حزب الله والعمل السياسي.. الأخلاق قيمة حاكمة
تبقى جدلية العلاقة بين السياسة والأخلاق إشكالية قائمة تطغى عليها عملياً المكيافيلية بغايتها التي تبرر الوسيلة، أو بمعناها الذي يمكن تلخيصه بأنه " توظيف المكر والإزدواجية في الكفاءة السياسية أو في السلوك العام".
معظم قوى السياسة في لبنان تعتنق المكيافيلية منهج عمل وممارسة دون خجل أو وجل، مبرِّرة ما تعتبره براغماتية اضطرارية بأنها ممر إلزامي للعمل السياسي بحكم الديموقراطية التوافقية المتفاهَم عليها عرفاً والميثاقية الدستورية المنصوص عليها إلتباساً في ميثاق العام 1943 والمكرَّسة في اتفاق الطائف. والقوى المذكورة أحزاب وشخصيات تكاد لا تجد حرجاً في اعتماد اللاأخلاقية العلنية على قاعدة أن مصلحة الحزب أو الجماعة فوق كل اعتبار في صراعات سياسية وغير سياسية لا تنفك تشتد كل حين بعد أن تخمد إلى حين.
وربما تكون تعقيدات قانون الإنتخاب النسبي قد كشفت ما كان مضمراً إلى حد ما، وتجسدت اللاأخلاقية السياسية جلية لا ساتر لها ولا قناع في الإنتخابات الراهنة الحامية الوطيس، فاختلط حابل التحالفات السياسية بنابل الحسابات الإنتخابية، واختطفت الأرقام قوى وأحزاب وشخصيات من تحالفاتها السياسية الثابتة، وزجّت بها في تحالفات إنتخابية مصلحية عابرة تعبّر عنها عدادات الحاصل الإنتخابي وصراعات الصوت التفضيلي حتى داخل الحزب الواحد أو التحالف السياسي الواحد.
وحده حزب الله بدا متميزاً، وربما فريداً، في تقديم نموذج مستجد على العقل السياسي اللبناني، نموذج تتقدم عنده الأخلاق على السياسة، والعقيدة هذه لم تقتصر على العمل السياسي بل سبقتها تجارب تجلت أكثر وضوحاً في العمل العسكري والأمني، وتجربة دخول المقاومين محرِرين إلى الشريط الحدودي المحتل عام ألفين وعدم تعرضهم لأي عميل بإعدام أو محاكمة ميدانية كما فعلت كل المقاومات على امتداد العالم، تكاد تكون حالة نادرة على مستوى العالم ربطاً بسيرورة التحرير وما تخلله من تنكيل وقتل ومجازر، على مدى نحو عقدين، على يد جيش الإحتلال الإسرائيلي وعملائه أنفسهم الذين خلّفهم وراءه وتركهم لمصيرهم، وتلقّتهم المقاومة بسَوْقهم بهدوء إلى المحاكم العسكرية اللبنانية.
الجميع من حلفاء وخصوم وأعداء كانوا يقرّون لحزب الله بصدقه ومصداقيته |
وفي السياسة كاد غبار العمل السياسي اللبناني يحجب حقيقة ثقافة حزب الله وتعامله مع السياسة كقيمة، وكادت التقاطعات والتبدلات والإنقلابات التحالفية فيها تضع حزب الله في صف مدرسة تدوير الزوايا على الطريقة اللبنانية، لكن محطات عدة أكدت المؤكد في انتهاجه العمل السياسي مقروناً بالأخلاق أو ملحقاً بها، فهو من مدرسة الإمام الخميني الذي يقول" سياستنا عين ديننا وديننا عين سياستنا".
الجميع كانوا يعرفون لكن بعضهم كانوا يحرفون، الجميع ممن التقت سياساتهم مع حزب الله أو تقاطعت أو افترقت، الجميع من حلفاء وخصوم وأعداء كانوا يقرّون لحزب الله بصدقه ومصداقيته، وعلى رأس الأعداء " إسرائيل" التي طالما ردد مسؤولوها وخبراؤها ومستوطنوها أنهم يصدّقون دقة وصحة وجدية ما يقوله الأمين العام لحزب الله. لكن حملة دعائية شعواء كلفت واشنطن مئات ملايين الدولارات، كما كشف سفيرها السابق في بيروت جيفري فيلتمان، كادت، وفي جو من الاصطفاف المذهبي اللبناني الحاد، أن تنجح في المس بالصورة التي بناها حزب الله لنفسه، لتأتي إنتخابات رئاسة الجمهورية فرصة أكد فيها حزب الله أن الإلتزام الأخلاقي يتقدم على اعتبارات السياسة، حتى لو اقتضى الأمر مفاضلة بين العين والعين، فميشال عون عين وسليمان فرنجية عين، وعين حزب الله كانت على وعد وعهد وإلتزام أخلاقي.
واليوم يثبت حزب الله في الإنتخابات النيابية، حرصه على كل حلفائه مهما كبُر أو صغُر حاصلهم الإنتخابي، فوحده هذه المرة أيضاً لم يفعل كما تفعل معظم القوى الأخرى مع حلفائها أو حتى مع محازبيها من المرشحين من غير أصحاب الحظوة في الصوت التفضيلي أو في رفد الحاصل الإنتخابي. ووحده لم ينقلب على من وقفوا معه في الإستراتيجيا لغاية تكتيكية مرحلية عابرة، حتى لو كان التكتيك خاسراً في حسابات الأرقام مع القانون النسبي الهجين.
وأكثر من ذلك، وهذا ما لم يقنع أقرب المقربين من حزب الله، كيف لم يمارس ضغطاً على حلفائه أو بعضهم في دوائر إنتخابية هامة وحساسة( الشوف ـ عاليه ، وطرابلس ـ المنية ـ الضنية وغيرهما) ليأتلفوا في لوائح موحدة، وهو يدرك حجم الإستهداف السياسي الداخلي والخارجي الذي يتعرض له في هذه الإنتخابات وانتظار المتربصين به عند منعطف السابع من أيار ليحصوا عليه كم ربح وحلفاؤه وكم خسر فيقيموا الدنيا ولا يقعدوها فرحاً وشماتة أو يصمتوا صمت أهل القبور. بيد أن حزب الله، برغم ذلك، ما كان ولن يكون ممن يعتقدون بأن الغاية تبرر الوسيلة، فالأخلاق عنده، بمعزل عن حسابات الربح والخسارة، هي لازمة رئيسة وقيمة حاكمة للعمل السياسي.