ارشيف من :الانتخابات النيابية 2018
الانتخابات النيابية.. تردي الخطاب والأسلوب
"الجنون هو أن تفعل الشيء مرةً بعد مرة وتتوقع نتيجة مختلفة" - "اينشتاين".
ربما لم يعرف لبنان خطاباً هابطاً كالذي تشهدة الساحات الانتخابية الحالية. خطاب ينطوي على ضحالة ثقافية وسياسية لا تتناسب مع هذا الحال المثقل ببؤس العطالة عن العمل والتلوث البيئي والفساد والهدر وسرقة المال العام حتى بات البلد على عتبة دين وصل إلى 90 مليار دولار. كانت المحطة الجدية الوحيدة ربما في هذا المسار خطاب سماحة سيد المقاومة في بعلبك واضعاً النقاط على الحروف. فيما المطلوب من الآخرين تقديم تصورات وبرامج لا سيما الذين أمسكوا بالسلطة على مدى عقود، اكتفى "أولو الأمر" بالذهاب إلى الغرب وعرب النفط فعقدوا لهم "سيدر"، كـ"فيتامين انتخابي" لا تلبث أن تتبخر وعوده ليلتحق بغيره من باريس 1 الى باريس 2 و3 ! والمنحة السعودية، والهبة الفلانية. وبدل البحث في العمق لإيجاد المخارج للمأزق الاقتصادي، يجري تضليل الرأي العام باستحضار شعار " السلاح غير الشرعي" وما شابه من حركات بهلوانية تخفي المشكلة الحقيقية في كُمِّ الحاوي. وبموازاة هذا الخطاب تتوالد لوائح المرشحين على غير قاعدة سياسية أو فكرية، فكانت اللوائح خلطات عجائبية من نقابي يساري مثلاً إلى جانب برجوازي يميني. وبذلك بات أي شيء متحرراً من الإعتبارات القيمية والأخلاقية، ليس هنالك من مستبعد إلا ربما بعض المحازبين والأنصار الذين كانوا فيما مضى (مناضلين) بمقياس، وصاروا الآن (أعباء) بمقياس لعبة الحاصل الانتخابي و(الصوت التفضيلي) القاتل.
تراجع
سيرى المتابع لهذه الانتخابات تراجعاً ملموساً في الثقافة المدنية التي انطبعت بها المدن، يقابلها بروزٌ دور لـ"الجينات" العشائرية. ومثالها الصادم بيروت العاصمة، التي كانت تاريخياً مدينةً تشع ثقافة ومركزاً للأفكار على مستوى الشرق العربي؛ وقد غدت العائلات فيها الآن من أكبر المفاتيح الإنتخابية التي تسعى الطبقة الحاكمة إلى الإستحواذ عليها. كما بات شعار بيروت لأهل بيروت، مطروحاً بقوة في معاندة للتاريخ الذي يشهد بانفتاح أهلها ورحابتهم. طروحات مقززة، هذا غير المضللة منها، مثل تصوير المعركة بأنها بين "بيروت عربية أو ايرانية". وكأن الوفود الإيرانية قد أغلقت أفق بيروت، وليس السعودية التي تشهد استنفاراً سياسياً ودبلوماسياً بل ومالياً، مرسلةً وفودها إلى بيروت ذهاباً وإياباً يقابلون رؤساء هنا أو وزراء هناك. فضلاً عن زيارات القائم بأعمال سفارتها لمرشحين للإنتخابات النيابية في انتهاك فظ للقوانين التي تحدد حركة السفراء واتصالاتهم. ولا حاجة أيضاً للتذكير بمن احتجز أحد كبار أقطاب السياسة في لبنان في مسعاً للإطاحة به بل وحتى ترشيح بديل عنه.
استطراداً وفي السياق نفسه، يبدو من منظور العروبة الأصيلة مضموناً، أن مشكلة بيروت بدأت عندما خلعت ثوب ناصريتها، لترتدي من بعدها الـ"العباءة السعودية". وبها ومعها جرى السطو على أصحاب الحقوق في الأسواق التجارية، الأمر الذي يتجنب ذكره اللاهثون في السباق الإنتخابي، متعمدين تضليل الناس تحت شعار "حقوق بيروت". ما أسفه هذا الشعار وما أوقحه! يريد أن ينسينا بأن ضياع الحقوق جرى بقوة السلطة والبترو دولار الذي وضع يده على الوسط التجاري أو ما كان قبل الحرب يطلق عليه "المدينة"، ليجد تجارها أنفسهم على قارعة الطريق. وما تزال الذاكرة البيروتية تحفظ أسماء العديد منهم ممن لم يسعفه العمر كي يتحمل صدمة ذهاب مصدر رزقه فسقطوا صرعى سكتة قلبية أو جلطة دماغية، هذا البترو دولار، استكمل سيطرته على بيروت عبر التحكم بالسوق العقاري تسعيراً أو بيعاً وشراءً، وهنا باتت بيروت لغير أهلها، وعندها أصبح غير متيسراً على طبقاتها الوسطى شراء متر مربع في العاصمة (ذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
القوى الحية
هل كان ما سَبَقَ قَدَراً؟ بالتأكيد لا. غير أن غياب القوى الحية بالمعنى الثوري، وأنانيات الأحزاب والنخب السياسية، وارتهان بعض الشخصيات لمكاسب عابرة قد عطل بناء كتلة شعبية واسعة الطيف. فصار الشارع شوارعاً، تشغلها كتلٌ من الدهماء تتحرك بالغرائز وفتات موائد الأثرياء. حتى أسقط في السابق شخصيات مثل سليم الحص وعمر كرامي وأسامة سعد وغيرهم ممن لهم تاريخ نضالي مشرف.
يبرز الآن ما يسمى "المجتمع المدني". وبدت الإنتخابات النيابية طريقاً غير سالك للنخب، فعند كل محطة انتخابية، ينسى اللبنانيون آلامهم وسخطهم مجددين للطبقة السياسية التي ما فتئت تتحكم فيهم. وهم على هذا الحال منذ تطبيق دستور الطائف، وإلى ما قبله خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. عامل جديد دخل هذه المره تحت عنوان "قوى المجتمع المدني"، فهل الدواء فيها، أم تراها وهمٌ، أو نكتفي بالعبارة بحد ذاتها كمقدمة لشيء جديد جديد لمن يؤمن بمفهوم "الصيرورة التاريخية". لهذا حديث آخر له شؤون وشجون.