ارشيف من :تحقيقات
محررة تروي لـ’العهد’ قصص الظلام في معتقلات الإرهابيين بدوما
لم يكن الحديث إلى ميرفت المحررة حديثاً من قيود سجانيها يسير بانسيابية الحكايا، فتزاحم الأحداث في مخيلتها الجريحة دفعها لطي قصص حزينة قبل الوصول إلى خواتيمها والشروع برواية قصص أخرى استعادتها ذاكرتها المثقلة بالأوجاع. لكنها ورغم فوضى الحواس هذه استطاعت أن تعطينا صورة جلية عن مدى الألم الذي عاشته، وهي المفارقة لعائلة لم يلتم شملها بشكل كامل حتى اللحظة، بانتظار مجيء جعفر رب الأسرة الغائب الحاضر في كل الأحاديث والدموع.
تحت جنح ليل أضاءت ديجوره شموع حرية غيبها الإرهابيون في أقبية الاختطاف بدوما لما يزيد عن أربع سنوات، عادت ميرفت إلى منزل عائلتها في منطقة المزة 86 ، لتلتقي بولديها اللذين استودعتهما جارتها من جوبر والتي تطوعت لتبنيهما عندما اقتحمت سواطير الإرهابيين البيوت الآمنة لتقتل كل من يوسم لدى هؤلاء المجرمين بـ "الآخر". ألقت ميرفت حينها النظرة الأخيرة على يارة وعبد الله وهمست بصوت متهدج "ادعولي"، قبل أن تساق مخفورة ببنادق الإرهابيين إلى أحد الأقبية في عدرا العمالية حيث كانت حصتها اليومية من الطعام خمس لقيمات من الرز أو البرغل بالعدد والغاية كما تقول "إبقاؤنا كأوراق تفاوض بشرية على قيد الحياة، كنا نشم رائحة الخبز والحلويات تأتي من أفرانهم المجاورة، حتى الخبز كان حلماً بالنسبة لنا". حاصر الجيش السوري عدرا أملاً باستعادة المدينة وتحرير المختطفين "أجبر الرجال من المختطفين وفيهم زوجي جعفر على حفر الأنفاق لإيصالنا معصوبي العيون خارج المدينة العمالية، لم يخبرونا عن وجهتنا في رحلة العذاب المستجدة هذه لكن الأوراق الكثيرة المتناثرة في مركز البحوث العلمية التي ساقونا إليه وشت بالمكان فعرفنا أننا في دوما" تقول ميرفت لموقع "العهد" الإخباري.
الأقفاص الجوالة
مفاصل القهر في حياة ميرفت وبقية المختطفين أكثر من أن تحصى. تذكر جيداً كيف كسر الإرهابيون أصابع يديها ورجليها بأكعاب البنادق حين كان ردها عن أسئلتهم المتعلقة بأماكن أُسَر وأشخاص بعينهم في عدرا "لا أدري فأنا لا أحتك بأحد هنا"، كانت هذه الكلمات كفيلة بصب جام الغضب عليها. لكن الصورة الأشد قهراً والتي عادت بالأذهان إلى حياة الرق والعبودية كانت حين أجبر المختطفون على الدخول إلى أقفاص حديدية جابت شوارع دوما، وأُكرهوا على الإدلاء بتصريحات لا تنسجم مع قناعاتهم الداخلية. تقول ميرفت "بداية رفض المختطفون الأمر بشدة لكنهم أكرهوا على ذلك ومنهم من بدأ حديثه بالدعاء للجيش وللرئيس الأسد قبل أن ينال حصته من الضرب ويجبر على قول كلام مناقض، ورغم ذلك شعرنا بأنهم مأزومون وتائهون وأننا نحن من ينتصر عليهم بدليل وصولهم إلى هذه الحالة الهستيرية التي عرت كل ادعاءاتهم ومزاعمهم الموجهة للخارج بأنهم معتدلون".
نصنع حريتنا بأنفسنا
رغم كل أساليب التضييق الممارسة بحق المختطفين من قبل إرهابييهم استطاع هؤلاء أن يبعثوا الحياة في سجونهم "أقمنا دورات لتعليم اللغتين العربية والإنكليزية للأطفال معنا، وحاولنا مواكبة المناهج التعليمية، كل من يملك معلومة مفيدة على كل المستويات العلمية والأدبية والسياسية وحتى الشعرية كان يدلي بها وتخضع للنقاش، كانوا يفاجأون أحيانا بقدرتنا على صناعة الفرح رغم كل المآسي التي تضطرب في نفوسنا، كنا أثناء فترت الاستراحة القصيرة خارجاً نأتي بحجارة بيضاء لكي نكتب من خلالها على جدران السجن الأسود"، بحس ميرفت.
الجيش يقترب
تروي ميرفت لموقع "العهد" الإخباري كيف بدأ المختطفون يستشعرون قدوم الجيش العربي السوري "حاولوا إخفاء أنباء تقدم الجيش عنا، لكن اشتداد المعارك كشف لنا أن هناك خبراً سعيداً يلوح في الأفق، ومن ثم فإن الوجوه الخائفة للإرهابيين ساعدتنا على فهم الصورة بشكل جلي أكثر فالجيش يتقدم والإرهابيون راحوا يتحدثون بشكل علني عن مصيرهم ويشتمون الذين وعدوهم بالتدخل ولم يفعلوا، عند ذلك لم نستطع إخفاء فرحتنا ورحنا نهتف للجيش وللرئيس الأسد، شعرنا حينها أننا نحن الأحرار وهم المختطفون لدينا".
بعد الصعود إلى الحافلات أخرجت ميرفت من إحدى جيوبها صورة للرئيس الأسد كانت قد أخذتها من إحدى الكتب الموجودة في مركز الأبحاث وخبأتها طيلة الوقت في سجنها الصغير بعدما قامت بتطريز إطارها خفية عن الإرهابيين "أخرجتها في حافلة الحرية كرسالة تحد مني إليهم ورسالة حب لسيادة الرئيس الذي حررنا من العبودية".
أين أنت يا جعفر؟
في منزل العائلة ستلتقي ميرفت بـ "يارا وعبودي". كبر الطفلان في غيابها واشتدّ عودهما، لكنهما في حضرتها عادا طفلين صغيرين يطلبان حنان الأم، تروي يارا لموقع "العهد" الإخباري لحظات الوداع الأخيرة ووصية أمهما لهما "حتى لو رأيتموني أذبح أمامكما لا تقوما بأي تصرف ولا تقولا أنكما ولداي".
أما عبد الله فيبدو وكأنه لم يخرج بعد من سطوة الذكرى رغم وصوله مع أخته باكراً إلى بيت جده برفقة جارتهم من جوبر التي أدت الوصية بكل أمانة، لكن أي خبر عن جعفر زوج ميرفت لم يرد بعد حتى اللحظة.
يروي مجد شقيق ميرفت كيف تحدث مع صهره عبر الجوال بعد ساعات من دخول الإرهابيين إلى عدرا العمالية وكيف ترجاه أن يخرج بأي وسيلة مع العائلة "أخبرني أن القناصة المنتشرين على سطوح الأبنية يطلقون النار على كل من يتحرك باتجاه الجيش قبل أن يختم حديثه بالقول بأنه رجل مؤمن بالله وبقضائه".
رفاق ميرفت يأتون للمباركة بحريتها تسبقهم الدموع، كل منهم يتذكر آخر اتصال له معها "عشنا لحظات عصيبة قبل أن نراها حرة على شاشة الفضائيات".
يضيق البيت بالدموع فنخرج بصحبة ميرفت إلى سطح المنزل، كتل الإسمنت المرتفع توشك أن تحجب الأفق، لكن أفقاً للحرية لا يحده المكان كان لا يزال يداعب خيال ميرفت وهي تحدثنا تحت أشعة الشمس عن قصص الظلام والظلاميين. وتحت أشعة الشمس أيضا جلست العائلة التي التم شملها تباعاً على مقاعد الحرية فيما بقي كرسي شاغر ينتظر قدوم جعفر لكي يأخذ مكانه وسط العائلة.