ارشيف من :نقاط على الحروف
اغتيال الطاقات العربية.. منهج ’الموساد’ المعتمد
بعد دقائق من اذان فجر يوم السبت الماضي 21 نيسان/ أبريل، توجه الأكاديمي والباحث الفلسطيني الشاب فادي البطش لأداء صلاة الفجر في أحد مساجد العاصمة الماليزية، كوالالمبور، القريب من بيته. وقبل الوصول إلى باب المسجد عاجله اثنان من المسلحين المستقلين دراجة نارية وأطلقا عليه أربع عشرى رصاصة استقرت معظمها في جسده.
لم يكن البطش معروفاً بشكل كبير لوسائل الإعلام رغم نبوغه العلمي، لكنه كان معروفاً بدقة لدى الأجهزة التي تتبعته واغتالته، ليتضح أنه كان أحد العلماء والباحثين الفلسطينيين الأفذاذ. فالبطش صاحب الـ 35 ربيعاً المولود في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، كان قد حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية من الجامعة الإسلامية في غزة عام 2009، ما أهله لدراسة ونيل درجة الدكتوراه من جامعة مالايا الماليزية، ليعمل بعدها محاضراً في إحدى الجامعات الخاصة الماليزية.
خلال مسيرته العلمية القصيرة استطاع البطش ابتكار جهاز لتحسين كفاءة شبكات نقل الكهرباء وتقليل الفقد في الطاقة الكهربائية من محطات توليد الطاقة وعبر خطوط النقل، بجانب تحسين كفاءة شبكة نقل الكهرباء عموما. ولكن بجانب ذلك كان له اسهامات علمية عديدة بلغت 18 بحثاً في مجالات علمية أهلته لنيل عدد من براءات الاختراع والمشاركة في مؤتمرات دولية في اليابان وبريطانيا واسبانيا وغيرها، وحصوله على العديد من الأوسمة والجوائز كان أبرزها الحصول كأول عربي على منحة "خزانة" الماليزية التي تعد الأولى في ماليزيا من حيث جودة المنحة وسمعتها العلمية العالمية، وقد قال في تعليقه على حصوله عليها "أردت أن أوصل رسالة للعالم أن الفلسطيني مصر على إبداعه ولا توقفه أي حدود".
إلا أنه بجانب تلك الاسهامات العلمية كان له دور سياسي بارز وفق ما تم الإعلان عنه من الجانب الفلسطيني والصهيوني كذلك، حيث اتضح أنه كان مساهماً في تطوير برنامج الطائرات دون طيار وصواريخ المقاومة الفلسطينية -وقد كان عضواً في حركة "حماس"- وذلك ما حمل الجميع على اتهام جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" بالوقوف وراء الجريمة رغم الانكار الرسمي من حكومة الاحتلال التي اتضح من بيانات وزير الحرب فيها معرفتها الجيدة بالشهيد.
لم تكن الاتهامات العاجلة للموساد بالوقوف وراء اغتيال البطش من فراغ، ففي حادثة مماثلة وقعت على الأراضي التونسية في 15 كانون الأول/ ديسمبر عام 2016، حاصرت سيارة "رينو ترافيك" ذات أبواب انزلاقية عريضة مهندس الطيران التونسي محمد الزواري داخل سيارته أمام منزله في مدينة صفاقس، وقام شخصان بإطلاق 13 رصاصة عليه أصابت 8 منها رأسه وقلبه، واستقرت 5 أخرى في الحائط خلفه وفي بدن السيارة، وعقب تلك الحادثة كشفت حركة المقاومة الفلسطينية "حماس" عن عمل المهندس الشهيد واسهاماته في المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني.
مهندس الطيران التونسي محمد الزواري
وفق عدة مصادر فلسطينية وتونسية، فقد كان الزواري مهندس برنامج الطائرات دون طيار لحركات المقاومة الفلسطينية، اذ استطاع الشهيد مع فريق عمله اختراع أول طائرة دون طيار تُحلق فوق الأراضي المحتلة والتي سميت بطائرة "الأبابيل" التي كان لها دور كبير في حرب "العصف المأكول" مع كيان العدو عام 2014، بينما كشفت مصادر أخرى عن أن الشهيد كان يُعد لمشروع أكبر وهو غواصة تعمل بالتحكم عن بُعد كان من شأنها أن تُغير موازين القوى مع جيش الاحتلال، وهو ما يتوافق مع اسهامات الشهيد الذي أعد رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن الغواصة التي تعمل بنظام التحكم عن بعد، بينما كانت رسالة تخرجه في مرحلة ما قبل الدكتوراه عن صناعة الطائرات بدون طيار.
وبعد أقل من عام كشفت حركة المقاومة الفلسطينية "حماس" عن تفاصيل عملية الاغتيال كاملة والتي كشفت مشاركة ضابطين من الموساد و14 شخصاً آخرين في العملية التي تمت الاستعانة لتنفيذها بجنسيات أوروبية مُتعددة لتمويه الهوية الحقيقية للمنفذين، ومنهم من لم يكن على علم بأنه يعمل لصالح جهاز الموساد الإسرائيلي بعد تقديم عملاء الموساد لأنفسهم على أنهم رجال أعمال ومُستثمرون.
وبين عملية البطش والزواري لقي عدد من الباحثين العرب المحسوبين على مقاومة الاحتلال الصهيوني مصرعهم في عدة حوادث غير طبيعية. ففي 25 آذار/ مارس الماضي، وجدت جثة الباحثة الفلسطينية صاحبة الـ 27 ربيعاً، إيمان حسام رزة، مشنوقة داخل مسكنها في مدينة البيرة وسط الضفة الغربية، ورغم المزاعم بأن سبب الوفاة هو الانتحار، فقد كان هناك من الإشارات ما يدحض تلك الفرضية أهمها ما ذكره والدها من أنها كانت باحثة في مجال الكيمياء ومستشارة لإحدى المؤسسات ومتطوعة في أخرى وكانت مسؤولة عن أحد المصانع قبيل موتها بأشهر، وأنها قد تلقت تهديدات من أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية قال لها بأنها ستكون محرومة من دخول "إسرائيل" لمدة 112 عاماً، لتُجيبه: "وهل تعتقد ان بقاءكم على أرضنا أبدي؟" بينما كان أخر ما كتبته على صفحتها الشخصية في موقع فيس بوك "القسمة والنصيب، الرضى بالقليل، امشي جنب الحيط وقول يا رب الستر (...) عبارات فاشلة ابتدعها أناس فاشلون ليبرروا تقصيرهم وقصور همتهم، لا تكن مثلهم، لا ترض إلا بالأفضل، أو بأفضل الأفضل، فالدنيا لا تحب الضعفاء، بل تحب الأقوياء الذين ينتزعون نجاحهم منها انتزاعاً، فكل من سبقك من الناجحين ليسوا أفضل منك بأي شيء".
كل تلك الجرائم وغيرها كثير جداً كانت تحمل أثار أجهزة المخابرات الإسرائيلية، لكن المخزي فيها جميعاً أنها لم تجد أي صدى داخل المؤسسات الدولية ولا المجتمع الدولي كمثيلاتها من الجرائم التي كان أخرها اغتيال الجاسوس الروسي "سيرغي سكريبال" فوق الأراضي الإنجليزية، والذي احتشدت بسببه القوى الدولية وتمت مناقشة قضيته في مجلس الأمن، واتخذت عدة دول حول العالم إجراءات دبلوماسية حادة ضد روسيا بسببه حتى قبل انتهاء التحقيقات في القضية، إلا أن ذلك العالم المتحضر المدافع عن الحقوق والحريات لا يعرف حقوقاً أو حريات لمن لا ترضى عنهم حكومة الاحتلال الصهيوني.