ارشيف من :آراء وتحليلات
حرب الاقتصاد الناعمة: الوجه الحقيقي لصراع المنطقة المُحتدم
يغيب عن المراقب حقائق شتى حول الصراع في المنطقة حيث يغلب الطابع العسكري والأمني والسياسي على المشهد، وهو ما يعيش في اللاوعي لدى المراقب والشعوب أيضاً. لكن الحقائق الكامنة خلف كل الصراعات، تبقى خفية. يُدير عبرها اللاعبون مصالحهم من خلف الكواليس، فتكون النتيجة تأجيجاً في الصراع، بأوجهه العسكرية والأمنية والسياسية. لكن الأسباب الحقيقية مختلفة!
هي الحرب الناعمة، التي بتنا نعرف عنها ما تعنيه دون أن نضع استراتيجية عملية للنجاح في ميدانها. وبين مرحلةٍ وأخرى في الصراع، نغرق في نتائجه التي يغلب عليها الطابع العسكري والأمني والسياسي، ونغفل من جديد عن حقائق قد تكون أكثر إيلاماً لو أمعنا في إدراك آثارها الاستراتيجية.
هي نفسها ما يجري اليوم فيما يخص دول المنطقة. التحوُّل في الصراع من وجهٍ عسكري الطابع نحو أوجه الدبلوماسية. لكنها الدبلوماسية المبنية على نتائج الحروب التي فتكت ودمَّرت مجتمعات، وأطاحت بحضارات، على الرغم من أن البعض قد يقول أنها حققت انتصاراتٍ لأطراف ضد أخرى.
صحيحٌ أن الميدان هو الذي يُحدد الأطراف القادرة على التحكم باللعبة. إبراز أوراق القوة يستلزم تحصيلها مُسبقاً، وهو ما تفعله مراحل الصراع، لتُفرز الأطراف بالنتيجة. لكن الواقع الحالي، بات يحتاج الى قراءةٍ من نوعٍ آخر. قراءة تُقدِّم الغرب كطرفٍ براغماتيٍ يُدير النتائج مع لحاظ الفرق في المصالح. أما نحن الغارقون في معارك وجودية في أكثر من مكان، فعلينا أن ندرك مصالحنا أيضاً.
لم يكن العدوان الأمريكي الأخير ضد سوريا سوى خطوة ضرورية. لكنها خطوة أتت ضمن مسارٍ طويلٍ لا يجب الغوص في تفاصيله دون رؤيته كجزءٍ ضمن الكل. عادت الدول الأوروبية نحو واشنطن باستثناء المانيا حيث كان العدوان ورقة اعتمادٍ مُسبقة لبعض الدول. والأمر ليس غريباً عن الدول الأوروبية التي تُجاهر في ولائها لأمريكا، مع وجود الفرق الواضح في المصالح لأسباب جيوسياسية.
فالشرق الأوسط بالنسبة لأوروبا يختلف عما يعنيه بالنسبة لأمريكا. وهنا تبرز أهمية الدول العربية المركزية في الصراع، سوريا والعراق ومصر.
في العام 2003 عارضت ألمانيا وفرنسا في البداية الحرب الأمريكية على العراق، وكانت أقرب الى روسيا. اشتراها حينها الأمريكيون بلعبة المصالح الآنية فتراجعت عن موقفها المتوافق مع موسكو. هي معضلة الإتحاد الأوروبي الذي بات تهديداً أكثر مما هو فرصة مما جعل المتشددين في أمريكا يسعون اليوم لإعادة تفتيته. فقد نجحت موسكو في إدارة نقاط ضعفها واستفادت من المشكلات المشتركة ذات الطابع الاقتصادي بينها وبين أوروبا. التفت الأوروبيون متأخرين الى سياسة الاستغلال الأمريكي، لكنهم لم ولن يستطيعوا الخروج من التبعية الأمريكية. وحدها ألمانيا ما تزال دولة معاندة.
هو نفسه المشهد يتكرر اليوم، قدَّمت الدول الأوروبية أوراق اعتمادها لواشنطن. وهي تُدرك أن الخطر على مصالحها كبير فالأزمة السورية لا تعنيها فقط في لعبة المصالح بل أيضاً في لعبة التهديدات حيث تلعب الجغرافيا السياسية مع الشرق الأوسط دور التأثير في الحسابات. سوريا تعني الدولة العربية الجزء من محور المقاومة. وبالتالي فهي الهدف الطبيعي للعقل الصهيوني وبالتالي الهدف الطبيعي لحركة اللوبيات التي تحكم الدول الأوروبية كما أمريكا. والسؤال اليوم، كيف يمكن القضاء على تأثير سوريا؟
تدمير سوريا لا يعني فقط الانتصار على النظام. بل إن التدمير تحقَّق عبر ضرب الحضارة وتهجير السورييين وتقسيم المجتمع السوري والقضاء على الثقافة والإقتصاد في سوريا. فيما كانت الحرب الصلبة (العسكرية) مقدمة لبناء الأرضية المطلوبة للحرب الناعمة (الثقافية والإقتصادية)، وما تعنيه نتائجها من أهمية بالنسبة للدول الغربية في الوجه الحقيقي للصراع.
ليس الصراع عسكرياً ولا أمنياً. هو صراعٌ اقتصادي يمارسه الغربيون اليوم تحت عنوان "بناء سوريا الجديدة". وهو ما يعني لهؤلاء، النظر لسوريا كسوق. يتم الاستثمار فيها في مشاريع إعادة الإعمار والنفط والغاز. الى جانب ذلك، فإن الأهداف من ضرب الثقافة والأخلاق والقيم السياسية تتكامل مع الأهداف الاقتصادية لتُشكل استراتيجية ناعمة تمتلك كل نقاط القوة. حينها يُوضع المشروع في مساره الصحيح الهادف الى إلغاء المقاومة كثقافة، وصناعة التحوُّل نحو عدم اشكالية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
إذن هي الحرب الحقيقية الخفية. حربٌ ناعمة مبنيَّة على نتائج الحرب الصلبة. لعبة مصالح كبرى، ما نزال نعيش في ردات فعلها ونتائجها. ويأتي الغرب على الرغم من مشاكله الداخلية ليُنظِّر علينا في الإصلاح والديمقراطية. وها هي مصر تدخل نفقاً خطراً بعد تقارير تتحدث عن نقل جماعاتٍ تكفيرية من سوريا الى سيناء.
باختصار، ما تزال المنطقة أسيرة حروبٍ تُدير خيوطها شركاتُ تصدير السلاح وعقولٌ اقتصادية تبحث عن موارد لمشاريع استثمارية. فكما هي بالنسبة إلينا معركة وجودٍ أيديلوجية، فهي للأعداء، معركة وجودٍ اقتصادية!