ارشيف من :آراء وتحليلات
أميركا تتراجع أمام الصواريخ النووية من كوريا الشمالية
ينظر بعض المحللين إلى أن الأزمة الكورية هي مسألة صراع بين القوى "الديمقراطية" في العالم وبين النظام "الدكتاتوري" الكوري الشمالي.
ولكن في رأينا المتواضع فإن الأزمة الكورية هي:
أولا ـ تجسيد مكثف للصراع الدولي بين الامبريالية العالمية الاميركية والاوروبية واليابانية ولواحقها وبين القوى العالمية المناوئة للامبريالية وعلى رأسها روسيا والصين.
ثانيا ـ يمتزج هذا الصراع الدولي امتزاجا عضويا مع المطامح التاريخية المشروعة للشعب الكوري بتحقيق الوحدة القومية والتحرر من الاحتلال الاميركي لكوريا الجنوبية، كمقدمة تاريخية وشرط ضروري لتحقيق التقدم والازدهار لشعب كوريا الموحد.
وللإضاءة على خلفية رأينا نتوقف عند النقاط التالية:
ـ1ـ وقعت كوريا تحت الاحتلال الياباني وأصبحت مستعمرة يابانية منذ 1910. وعومل الكوريون بشكل بشع ووحشي من قبل المستعمرين اليابانيين. وفي الثلاثينات احتلت اليابان أجزاء واسعة من الاراضي الصينية. وتعاملت مع الصينيين بمنتهى الوحشية ايضا.
ـ2ـ بعد أن سحق الجيش الاحمر السوفياتي (الروسي بغالبيته) جيش المانية النازية، في الحرب العالمية الثانية، كان الجيش الياباني لا يزال يحتشد بالملايين في الأراضي الصينية والكورية المحتلة. ولم يجرؤ الاميركيون ان يتحرشوا به مع أنهم كانوا يتحالفون مع حزب الكيومنتانغ الصيني. فقام الجيش الاحمر السوفياتي المنهك بمهاجمة اليابانيين. وبالتعاون مع الثوار الشيوعيين الصينيين بزعامة ماو تسي تونغ والكوريين بزعامة كيم ايل سونغ (جد الزعيم الكوري الشمالي الحالي) قام الجيش الاحمر بتحرير الأراضي الصينية والكورية من المحتلين اليابانيين. وفيما كان الجيش السوفياتي يدحر اليابانيين أمامه ويتقدم في الأراضي الكورية من جهة الشمال خشي الأميركيون من ان يكمل طريقه الى اليابان، فنزلوا في الأراضي الكورية من جهة الجنوب بدون قتال. وكان اليابانيون يفرون من أمام السوفيات ويستسلمون طوعا للاميركيين. والتقى الجيشان السوفياتي والاميركي عند خط العرض 38 الذي اعتمد لاحقا كحدود فاصلة بين الكوريتين.
ـ3ـ طالب "حزب العمل الكوري" (الحزب الشيوعي)، مدعوما من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، بإعادة توحيد كوريا وتأسيس جمهورية ديمقراطية كورية واحدة للشعب الكوري الواحد. ولكن المحتلين الاميركيين رفضوا ذلك واعلنوا في 1948 تشكيل جمهورية كورية انفصالية بقيادة عملاء اميركا في الجنوب. وحينذاك اعلن "حزب العمل الكوري" تشكيل "جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية" في الشمال.
ومع ان كوريا الشمالية حققت في سنواتها الاولى قفزة اقتصادية كبرى، الا ان "الوحدة القومية" ظلت هي الهدف الرئيس للجمهورية. وكانت تقوم المظاهرات والاضطرابات في الجنوب دعما لشعار "التحرير والوحدة القومية". ولخنق هذه التحركات الشعبية تحولت كوريا الجنوبية الانفصالية الى الحكم الدكتاتوري الموالي للمحتلين الاميركيين. ونتيجة لذلك انفجرت الحرب الكورية في حزيران/يونيو 1950. وفي غضون بضعة ايام فقط وصلت قوات الجيش الشعبي الكوري (الشمالي) الى سيؤول وحررتها بمساعدة القوى الثورية في كوريا الجنوبية ذاتها، ودحرت القوات المحتلة الاميركية الى البحر. وبدعوة من اميركا عقد مجلس الامن الدولي اجتماعا (بغياب المندوب السوفياتي) واتخذ قرارا بتشكيل قوات دولية ترفع علم الامم المتحدة، لمحاربة الجيش الشعبي الكوري الشمالي وانصاره في الجنوب. وتشكلت "القوات الاممية" من جيوش من 21 دولة وكانت القوات الاميركية تشكل 88% من تلك "القوات الاممية". وتمكن الاميركيون من دحر الجيش الشعبي الكوري حتى الحدود مع الصين. وهدد الجنرال الاميركي ماك ارثر بمهاجمة الصين وبضربها بالقنبلة الذرية. حينذاك تدخل المتطوعون الصينيون لنصرة الجيش الشعبي الكوري وارجعوا الاميركيين وحلفاءهم الى خط العرض 38. وحصلت القوات الشعبية الكورية والصينية على المساعدة السوفياتية بالمستشارين العسكريين والمؤن والاسلحة بما في ذلك طائرات ميغ 15 التي ذاع صيتها منذ ذلك الحين ودوخت الاميركيين. واستمر القتال عبر خط العرض 38 حتى تموز/ يوليو 1953، حينما عقدت الهدنة بين الطرفين، بدون توقيع معاهدة صلح، وظلت حالة الحرب قائمة بين جمهوريتي الشمال والجنوب حتى اليوم.
ـ4ـ وقع ضحية الحرب الكورية نحو خمسة ملايين نسمة اغلبهم من المدنيين في الشمال. وحل دمار هائل في الشمال، حيث ان القوات الاميركية انتهجت سياسة ابادة ضد الشعب الكوري ومدنه وقراه. كما وقع عشرات الاف الشهداء من المتطوعين الصينيين و40 الف قتيل و100 الف جريح من القوات الاميركية. وبالرغم من التضحيات الجسام بقيت جمهورية كوريا الدمقراطية الشعبية متمسكة بشعار وهدف "التحرير والوحدة القومية". ولهذا الهدف كرست السلطة الشعبية الكورية جميع الجهود لبناء جيش قوي مدرب ومسلح بشكل جيد. وهذا ما كان يرعب المحتلين الاميركيين وعملاءهم الجنوبيين.
ـ5ـ ومنذ ان وضعت الحرب اوزارها بدأ المعسكر الغربي بزعامة اميركا تطبيق سياسة مقاطعة وحصار وعقوبات ضد كوريا الشمالية لخنقها وتجويعها. ولم يبق شيء غير خاضع للمقاطعة ضد كوريا الشمالية سوى الهواء. كما تكثفت المحاولات لاسقاط السلطة الشعبية في الشمال عن طريق دعم وتحريض المعارضة ومحاولة القيام بـ"ثورة ملونة" في الشمال ولا سيما بعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي والغزو الرأسمالي لروسيا في تسعينات القرن الماضي. ولكن جميع المحاولات فشلت سوى في انتاج نظام دكتاتوري متشدد في كوريا الشمالية.
ـ6ـ بعد اتفاق الجيش والمخابرات الروسية على ازاحة يلتسين من الرئاسة وبداية عهد بوتين، بدأت روسيا تستعيد قرارها السيادي وملاحقة رجال "الاوليغارخيا" الموالين للغرب ولا سيما من اليهود، الذين بدأوا يفرون الى بريطانيا و"اسرائيل"، فاعلنت اميركا في عهد جورج بوش الابن الانسحاب من اتفاقية خفض الاسلحة النووية، التي كان قد وقعها جورج بوش الاب مع ميخائيل غورباتشوف في 1991 عشية انهيار الاتحاد السوفياتي. فاتجهت روسيا نحو تطبيق سياسة تعزيز القدرات العسكرية ولا سيما تحديث وتطوير الترسانة النووية والصاروخية.
ـ7ـ وفي هذه الاثناء كانت كوريا الشمالية قد بنت جيشا كلاسيكيا من اقوى جيوش العالم، قادرا على سحق القوات الكورية الجنوبية والمحتلين الاميركيين وهو يقوم بنزهة. وقادرا على التصدي بشدة لليابان ومهاجمتها في عقر دارها وتمزيقها. ولكن بقيت المشكلة في الحشد البحري ـ الجوي ـ الصاروخي ـ النووي للقوات الاميركية قرب الشواطئ الكورية والصينية. فكان لا بد من الاتجاه لتطوير السلاح النووي والصاروخي لاجل التمكن من ضرب الاراضي الاميركية ذاتها وردع اميركا. وبالرغم من جميع الضغوطات التي مورست ضدها، تمكنت كوريا الشمالية من تحقيق هذه المهمة. وبعد ان كان الرئيس الاميركي المهووس دونالد ترامب يرغي ويزبد، اضطر لاحناء الرأس والسماح بلقاء القمة الكورية الشمالية ـ الجنوبية، واعلن هو نفسه عن موافقته على لقاء الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ اون. ولهذه الغاية ارسل وزير خارجيته الجديد رئيس المخابرات الاميركية السابق مايك بومبيو الى بيونغ يانغ للتمهيد للقمة الاميركية الشمالية ـ الكورية الشمالية.
ـ8ـ ان روسيا والصين كانتا تعارضان شكليا التسلح النووي الكوري الشمالي. ولكن واقعيا، من الغباء المطلق الاعتقاد ان موسكو وبكين تخلتا ولو لساعة واحدة عن كوريا الشمالية، التي تشكل رأس الرمح بالنسبة لروسيا والصين بمواجهة الامبريالية الاميركية وحلفائها وعملائها.
ـ9ـ لا يمكن بأي شكل فصل الازمة الكورية ـ الاميركية عن تدهور العلاقات الاميركية ـ الروسية والاميركية ـ الصينية. وفيما لو اندلعت الحرب بين اميركا وكوريا، فإن اميركا لن تعرف من أين ستأتيها الضربات الصاروخبة ـ النووية. اما كوريا الجنوبية فإن الجيش الشعبي الكوري الشمالي لا يحتاج لاكثر من نزهة اليها بالاسلحة الكلاسيكية.