ارشيف من :آراء وتحليلات
لم تمت تونس لكنها.... ألم ترَ من مات؟
في الأمثال الشعبية ثمة مثل يقول: "لم تمت لكن...ألم تر من مات؟". وهذا مثال ذو المغزى يشير الى أن الخوض الذاتي في تجربة فاشلة ليست الطريقة المثلى، فضلا عن أن تكون الوحيدة، للتعلم والاتعاظ. فالإنسان لا يحتاج الى الوقوع في المكاره كي يتعلم منها؛ فيما بمقدوره فعل ذلك من خلال تجارب الآخرين.
لم أجد أفضل من هذا المثال مدخلاً للحديث عن دولة تونس وما تعانيه من أزمة اقتصادية-اجتماعية.
فمنذ ثورتها على رئيسها السابق "زين العابدين بن علي"، لم تستطع تونس الخروج من عنق الزجاجة. والواقع أن المأزق التونسي ليس مأزقاً جديداً، يختلف عما تعانيه دول أخرى، لا سيما ما سمي "بالربيع العربي". ربما "نجت" تونس، شأنها في ذلك شأن مصر (الى حد ما)، من "ربيع دموي" سقطت فيه ليبيا أولاً، وسوريا ثانياً. على أن معيار "السقوط" لا ينبغي أن يكون هو السقوط في حرب طاحنة، أو شلالات من الدم المسفوح على أعتاب مصالح الكبار وألعاب الأمم، فللسقوط أوجه أخرى، ولكل سقوط شروطه وصوره. فقد يكون، شأنه شأن الحروب، سقوطاً صلباً وقد يكون "ناعماً"، لكن جميعه يؤدي الى قعر واحد.
صحيح أن الفضل في عدم "السقوط الدموي" لتونس يعود بشكل أساس الى وعي الشعب أولاً، والى إرادة سياسية واعية لدى قيادات الأحزاب السياسية ثانياً، لكن ذلك لا يعني الذهاب الى "هاوية" اقتصادية واجتماعية قد تكون تداعياتها بعيدة الأمد أخطر من سقوط "عسكري دموي" آني. اذ غالبا ما تؤسس الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية الى حروب محلية طويلة الاجل قد تكون أكثر دموية من أي أسباب أخرى.
منذ ثورتها، دخلت تونس في دوامة اقتصادية ذات بعد اجتماعي خطير، مع ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة عجز في الميزانيات، وارتفاع في نسبة المديونية، وكمعظم الدول العربية ودول العالم الثالث، تسارع الحكومات الى الدول الغربية، ومؤسسات البنك الدولي او صناديق النقد، بصفتها "المنقذ" للاقتصادات، و"القشة" التي ينبغي أن يتمسك بها الغريق للنجاة من الغرق.
والواقع أن التجارب والتاريخ يدحضان هذه الفكرة. ولا نبالغ في القول ان تحدثنا عن انعدام نموذج واحد كان فيه العالم الغربي او مؤسساته المالية الدولية يمثل حالة "انقاذ" فعلية، او عن استحالة الاتيان بتجربة واحدة حول العالم قامت بموجبه "دولة ما" بالخروج من أزمتها الاقتصادية عبر "الاقتراض الاستعماري" مع تطبيق كافة التوصيات الإلزامية ( تعاليم الوصاية) التي تضعها المؤسسات المالية كشرط للقروض التي تحقق من خلالها عودة الهيمنة الاستعمارية بأقنعة جديدة. وفي المقابل، فان الاتيان بعشرات النماذج التي تثبت العكس ليس بالأمر المعجز، وأن "الانصياع" لشروط "المؤسسات المالية الاستعمارية" لم تؤد الا الى المزيد من "العجز" والى المزيد من السقوط في شراك "دكتاتورية المقرضين". ولعل التجربة الماليزية خير مثال، فماليزيا التي نجحت بقيادة مهاتير محمد عام 1998 في انقاذ الاقتصاد ليس أنها لم تنصاع "لشروط" صندوق النقد الدولي بل عمدت لمعاكسته تماما بحيث نفذت خطة معاكسة، فيما سقطت تايلاند وإندونيسيا.
إن الادعاء بحيادية تلك "المؤسسات المالية والنقدية" أو انها معزولة عن المنظومة الاستعمارية، لا يعدو كونه كذبة كبيرة. فيما تثبت التجارب والأرقام، ان هذه المؤسسات ليست سوى "مؤسسات مالية استعمارية" تسعى لإفقار الشعوب ونهب ثرواتها لحساب رفاهية "دكتاتوريات المقرضين" عبر "غزو اقتصادي" مقنّع يرتدي ثوب مساعدة "الدولة المتعثرة". ولعل افضل تعبير عن مسؤولية صندوق النقد وما يشبهه مؤسسات مالية في الافقار هو ذلك الخطاب الذي وجهه "مهاتير محمد" الى مؤتمر لصندوق النقد عُقد في هونغ كونغ عام 1997 حيث كتب "مهاتير": " نرفض الشائعات التي تشير الى أن ماليزيا ستسير في طريق المكسيك...لكننا نعرف الان سبب هذه الشائعات" في إشارة الى صندوق النقد نفسه.
إن ما يعيب "الثورات" في العالم "الثالث" عموما، والعالم العربي خصوصا هو سهولة التحكم بها وتوجيهها خارج اطار الأهداف التي انطلق منها الشعب، ما يؤدي لتحقيق الشعب أهدافا "شكلية" مبتعدا عن أهدافه الحقيقية، أو فلنقل عن الأهداف التي ينبغي أن تمثل "جوهر الثورة".
تسقط "الثورة" في فخ شعار اسقاط "النظام الفاسد"، فيما ينبغي أن يكون الشعار هو اسقاط "منظومة الفساد" والفرق بينهما ان الأول قد يستهدف الأدوات، فيما الثاني يستهدف المحرك والناظم. ومن الأخطاء الشائعة أن النظام يحمي المنظومة فيما الصحيح هو العكس، لأن النظام هدف ظاهر يجعله الناظم في الخطوط الامامية لإخفاء الهدف الباطن. وتؤيد التجربة هذه النظرية : فكم من نظام سقط ولم تسقط معه المنظومة، فتستبدل الأقنعة بأقنعة أخرى. فالشرط الأهم في نجاح أي "ثورة" هي قدرتها على الاستمرار ومتابعة إنجازاتها.
لم يكن الاحتلال العسكري المباشر هدفا بحد ذاته للاستعمار الغربي، بل وسيلة يراها الغرب ضرورية لتحقيق المكاسب الحقيقية وهي النهب المنظم لثروات الشعوب. فاذا ما شعر الغرب ان مصالحه يمكن تحقيقها بمعزل عن الاحتلال المباشر، لا سيما اذا كان مُكلِفاً، فلا يرى مانعا من استبداله باحتلال مقنع. وبالمقابل، ينبغي على الشعوب العربية عدم التمييز بين أوجه الاستعمار، بين واحد جغرافي وآخر اقتصادي وثقافي.
واذكر هنا كلاما للشيخ راشد الغنوشي في كتابه "من الفكر الإسلامي في تونس" ( ص 13) يصب في هذا الاطار نفسه عندما قال: "إن كل المساعدات التي يبذلها الأوروبي سوف تساهم مساهمة فعلية في زيادة التبعية والارتباط". فالتبعية، اذن، هي هدف الغربي. وبالتالي فان كل فعل "ثوري" لم ينته الى "قطع" اليد الاستعمارية بمختلف أشكالها ووجوهها هو فعل ثورة "ناقص" يخالف قواعد النحو، فلا يكون رافعاً ابداً.