ارشيف من :آراء وتحليلات
لماذا يدفع شعب فلسطين الدم في غزة؟
كيف يمكن وصف ما حصل في قطاع غزة هذا الأسبوع؟ ولا سيما ما حصل يوم الاثنين، حين ارتقى أكثر من ستين شخصاً وأصيب أكثر من ألفين برصاص وبصواريخ وقنابل الاحتلال الصهيوني؟
تتعدد الأوصاف، وكل صورة تعطى لما حصل تنطلق من خلفية فكرية معينة، ومن نظرة مختلفة إلى الأوضاع في غزة.
طبعاً، هناك أولاً أولئك الذين يتبنّون وجهة نظر الاحتلال، وهم صهاينة إسرائيليون بالدرجة الأولى، وصهاينة أميركيون أيضاً، وكذلك هناك الكثير من الصهاينة العرب الذين يشاركونهم النظرة نفسها.
يتهم أصحاب هذه النظرة الضحايا بأنهم هم المجرمون، وهم سبب ما حصل، وهم الذين أطلقوا أجسادهم على الرصاص الإسرائيلي، وبالتالي فإن قوات الاحتلال بريئة من دمهم.
ينطلق هؤلاء من كذبة تاريخية معروفة، فتنقلب الفئة الباغية إلى حَمَل وديع، ويصبح الذين تعرضوا للبغي هم الباغين.
قد يمكن فهم منطلقات الإسرائيليين في عرضهم للمسألة بهذا الشكل، وحتى الأميركيين المتصهينين، فإن هذا دأبهم، ولا مجال للاعتراض على ما يقولونه، إلا من خلال الاعتراض على أصل وجود هذا النوع من التفكير في العالم.
ولكن ما لا يمكن فهمه هو وجود عرب يفكرون بالطريقة نفسها، عرب من أبناء جِلدتنا، متصهينين بأفكارهم وبإعلامهم وبزعمائهم وببعض نخبهم. إن هؤلاء باتوا منتشرين بشكل كبير، ما يدفع إلى التفكير في طريقة لإقناعهم بأن الانسياق وراء تفكير مريض مثل هذا التفكير هو هلاك للفلسطينيين، ولكنه هلاك لهم أيضاً، فهم لن يبقى لهم مكان في الوجود إذا انهارت جبهة الدفاع الأولى عنهم.
هذا نوع من التفكير، وهناك نوع آخر، ربما لا يحمل صورة الخيانة للأمة، ولكنه ليس أقل سوءاً من التفكير الأول.
أصحاب هذا التفكير يبكون من قلوبهم على "الضحايا" الفلسطينيين، ويدينون الصهيوني القاتل، ولكنهم يتساءلون ـ ربما ببراءة ـ عن الجدوى من دفع هذه الضريبة من الدم، وعن النتيجة التي تتحقق من سقوط هذا العدد الكبير من "الخسائر" في "مواجهة غير متكافئة"، يذهب ضحيتها الطفل والكبير والشاب والفتاة، دون تمييز.
ويرى هؤلاء أنه كان من الأفضل الحفاظ على هذه الأرواح وعدم زجّها في أتون هذه المواجهة، وأن تقتصر الاحتجاجات على بعض "النشاطات السلمية"، التي لا تؤدي إلى ما أدت إليه الأحداث التي وقعت.
إن الذين يفكرون بهذا الشكل يتناسون عدة مسائل أساسية لا بد من الوقوف عندها:
ـ في البداية، إن الاحتجاجات كانت سلمية تماماً، ولم يكن هناك أي سلاح مع المنتفضين. وما سبّب هذا الوضع هو القمع الإجرامي من قبل قوات الاحتلال التي لم تترك سلاحاً إلا واستخدمته في مواجهة المواطنين العزّل. إذاً، نعود مرة أخرى إلى مسألة الباغي ومَن الذي قَتل ومن الذي قُتل.
ـ إن ما قام به هؤلاء الأبطال هو علامة فخر على جبين الزمن. هؤلاء أكدوا بروحهم الوثّابة على أن الصهاينة لن يستقروا في أرضنا، ولو سرقوا الأرض والحجر، ولو ادّعوا أنهم سيطروا على القدس وعلى فلسطين، ولو دعمهم كل استكبار الأرض.
إن هبّة غزة، ومعها القدس السليبة، وكل مدن الضفة الغربية، وحتى في الداخل المحتل، أثبتت أن روح الرفض والثورة ما زالت موجودة وستبقى وستتنامى في نفوس الأجيال الفلسطينية، بعيداً عن كل المثبّطات، داخليةً كانت او خارجية.
ـ لم يسعَ المنتفضون لأن يكونوا ضحايا ولأن يُقتلوا أو يُجرحوا، ولكنهم بالمقابل لم يهربوا من دفع أي ضريبة للتأكيد على صمودهم وثباتهم في أرضهم، وفي سعيهم لتحريرها بكل السبل الممكنة، ابتداء من الأنشطة السلمية، ووصولأ إلى أي طريقة يمكنها تحقيق هذا التحرير.
ـ ما حصل هو تأكيد على أن الصراع في المنطقة لا يمكن أن ينتهي مع وجود الكيان الصهيوني، وأن "إسرائيل" بكل قوّتها، وبكل دعم الغطرسة الأميركية لها، ستبقى ترتجف أمام عنفوان الشعب الفلسطيني، وهو يقوم بنشاطات بعيدة عن السلاح، فكيف إذا امتشق الفلسطينيون سلاحهم وساروا في الوقت الذي يرونه مناسباً لضعضعة الاحتلال ومن ثم القضاء عليه؟
ـ يبقى أن ما قام به الشعب الفلسطيني يُشكل صفعة عنيفة للمتصهينين العرب الذين ظنوا أنهم بأموالهم وباستعلائهم في المنطقة يستطيعون تغيير الطبيعة النقيّة للشعوب، هذه الطبيعة التي ترفض الظلم والاحتلال ولا يمكن أن تستكين له مهما تعرضت له هذه الشعوب من مغريات ومن ضغوطات.
لا شك أن معظم أبناء أمتنا من الذين يحملون هذه النظرة الأخيرة، التي عبّر عنها الشاعر العربي قبل عشرات السنين:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى.. حتى يراق على جوانبه الدمُ
لقد سقى الدم الفلسطيني التراب، وهذا السقي نتاجه حريّة وتحريراً واقتلاعاً للمحتلين، مهما تخاذل المتخاذلون وتآمر المتآمرون.