ارشيف من :آراء وتحليلات
نصف دولة سعودية
يعاني واقع "الدولة" في العالم العربي من "نفاق السيادة"، إذا يمكن القول أن سلطة الدولة شكلية وشبه مؤقتة وذلك لعدم وجود آلية لاستقرار مستدام. من هنا نجد أن معظم الدول في العالم العربي تعاني من غياب السلطة ذات الشرعية المؤسسة، والمتمثلة في قصور فاعلية مؤسسات الدولة وهشاشة حكم القانون، وضعف التأييد الشعبي وتآكل سلطة الدول المركزية مقابل تحديات التدخل الخارجي.
تعتمد معظم الانظمة العربية على القوة الغالبة والتي قد تسبب، بحسب "جان بودان"، قيام عصابة من اللصوص لكنها لا تسبب قيام الدولة. فمن الواضح أن القوة لا تشكل المبرر الوحيد للسيادة بل لا بد قبل ذلك من الاعتراف بسلطة لها سيادة أي شرعية، بحيث يقبل المجتمع سلطة الدولة في اخضاع أفراده بل في خضوعهم، لما يحتويه لفظ خضوع من بعد ارادي. فتعتمد الدولة في سبيل الدفاع عن نفوذ سلطانها على قوة الانضباط بدلاً من استخدام القوة العمياء ضد المعارضة التي تلقاها، في إطار آليات ومظاهر القوة التي تحكم المجتمعات والأفراد أو ما سمّاه "ميشيل فوكو" استراتيجيات لعبة القوة.
ينبغي ان يكون واضحا ذلك الحد الفاصل بين مصطلحات: القوة والسلطة والشرعية. ورغم أن القوة فعل اساسي في قيام الدولة، الا أن القوة الضرورية ليست تلك التي تشير الى العنف بقدر ما تشير الى قدرة احداث الفارق على الساحة الاجتماعية الموجود فيها الفرد. فيما السلطة تستقي مشروعيتها من الشرعية التي يعطيها العقد الاجتماعي.
تختفي مفاهيم السلطة والشرعية في نظم الحكم العربية في مقابل بروز القوة التي تستعمل فيها أدوات الإخضاع المادي مثل: المال أو السلاح وغيرها، فيما تبدو السلطة وكأنها تمثل الإمكانيات السلطوية والتي تعني الاستحواذ على نشاطات الأفراد. وهذا يعني أن هدف القوة هو تحقيق الهيمنة بعيداً عن العقلانية. وفيما العقلانية ينبغي ان تكون في قوة الاقناع، تستعمل القوة لجعل الآخرين يقومون بأشياء حتى لو كانوا لا يريدون القيام بها. في عملية استبدال قوة الاقناع بالإقناع بالقوة. فيبدو الاقناع هنا اشبه بالقمع.
من هنا، تشكل الأجهزة الأمنية- وتحديدا الجيش- النواة الصلبة للدولة والنظام الاجتماعي في العالم العربي، ويعود ذلك في جزء كبير منه الى طبيعة تكوين الدولة في الشرق الأوسط وفي العالم العربي تحديداً، حيث خضع نشوء "الدولة" لرؤية القوى الغربية المهيمنة، فكانت النتيجة أن أعاق الاستعمار نشوء دول قوية وحديثة ما بعد الاستعمار، وبدلا من ذلك فقد نشأت، ما يسميه "فاوست" "نصف دولة".
"ونصف الدولة" هذه تعني سيادة شكلية للقانون، وشرعية ظاهرية لا تعتمد على التأييد الواسع من الشعب، ما أدى الى ترسيخ مفاهيم الدولة وسيادتها بشكل مصطنع وظاهري عن طريق بعض النخب التي أوجدتها مصالح قوى خارجية أو فرضتها كقوة سلطوية، بعيداً عن أي عقد اجتماعي تنشأ بموجبة الدولة. وانما ظهرت "انصاف دول" بناء على عقد سلطوي بنيت بموجبه "سيادة"، ما يعني أن النظام الاجتماعي الذي شكلته هذه الممالك كان نظاماً غير شرعي سعى للظهور بمظهر القوي عن طريق اصطناع اعداء وهميين تضمن له ديمومة السلطة من خلال التهميش والاستبعاد غالباً للمعارضة.
لا يبدو من الصعب استحضار نماذج من "انصاف الدولة" هذه حيث تبدو "المملكة السعودية" نموذجاً مثاليا لنظام اوليغارشي تهيمن فيه عائلة حاكمة تمسك بمقدرات بلد بأكمله بناء على عقد سلطوي بُني اولاً بين بني سعود وأبناء عبد الوهاب وما لبثت أن انضمت اليه بريطانيا التي أورثته للأمريكي.
تمثل "السعودية" نموذجا من تقويض سلطة الدولة لصالح سلطة القبيلة، ومن بناء عقد اجتماعي لمصلحة عقد سلطوي، فيما يشبه العودة الى نموذج ما قبل الدولة الحديثة؛ حيث انقسمت السلطة بين شتى الفئات العشائرية والمجموعات الدينية بدعم من قوى خارجية. ما يعني أن هذا النظام يعاني من أزمة عميقة وتتعمق أكثر نتيجة الافتقاد للشرعية، في ظل تحكم عائلة المؤسس، واطلاق يده في رعاياه، ما سيعني أن سلطة الحاكم مقيدة بمصلحة هؤلاء أصحاب النفوذ والقوة، لا مصلحة كل الرعايا. واذا كانت "نصف الدولة السعودية" قد أُنشأت بناء على عقد سلطوي بين العائلة المهيمنة والقوى الخارجية لا على عقد اجتماعي بين أهل الحجاز، فلا غرابة ان تقوم هذه العائلة بدفع "الجزية" للداعم الاميركي في سبيل تأمين "ديمومة" هذا العقد السلطوي.