ارشيف من :آراء وتحليلات

المقاومة - التحرير: بديل استراتيجي للأمة.. وكيّ لوعي العدو

المقاومة - التحرير: بديل استراتيجي للأمة.. وكيّ لوعي العدو

شكل الاندحار الإسرائيلي من لبنان منعطفا مفصليا في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي. وتبلور كتتويج لمسار من الانتصارات التراكمية التي حققتها المقاومة، وكمحطة تأسيسية لعبت دوراً استنهاضيا في الشارع الفلسطيني، وبعض الشارع العربي. وتحوّل إلى مدرسة متاحة لكل من أراد أن ينهل منها. وترك تحرير لبنان دون أثمان سياسية أو أمنية، أثاراً وتداعيات على معادلات الصراع وعلى توجهات العدو وخياراته العسكرية، وهو ما انعكس في العديد من محطات المواجهة اللاحقة.

أي محاولة لقراءة تحرير العام 2000 من دون الاستناد إلى مسار المقاومة التي أسست له وفرضته على الاحتلال تبقى ناقصة، وقد تكون مشوهة ايضا. أضف إلى أن هناك جيل من الشباب قد لا يعرف من تلك المرحلة إلا أن المقاومة استطاعت أن تحرر لبنان من الاحتلال الإسرائيلي من دون الاطلال على حجم التضحيات والانجازات والانتصارات التي حققتها المقاومة، وبشكل أخص كيف واجهت المنعطفات المصيرية التي مرت بها.

لم يتحقق التحرير عام 2000، إلا بعدما استنفذ العدو كل رهاناته التي كان يرى أنه يمكن تنفيذها في حينه، ويتمكن من خلالها ردع المقاومة واخضاعها، بهدف فرض احتلال من دون - أو مع أقلّ – أثمان مؤلمة. ومرت هذه الرهانات بمراحل مفصلية، من أبرزها، اغتيال أمين عام حزب الله السيد عباس الموسوي (رض)، وعملية "تصفية الحساب" التي استمرت لمدة سبعة ايام، وعناقيد الغضب اضافة إلى انتهاج خيار العمليات وراء الخطوط بهدف استهداف كوادر حزب الله، والتي استمرت إلى حين تحطيمها في عملية انصارية.

كل من هذه المحطات شكَّلت معركة مكتملة العناصر، بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، وأدت نتائجها إلى بلورة معادلات وفرت للمقاومة مظلة حماية لعمقها الاستراتيجي وقدرة على استمرار توجيه الضربات المؤلمة لجنود وضباط الاحتلال. انتصار حزب الله في كل هذه المحطات، ونجاحه في اختراق كافة الاجراءات الامنية والوقائية للعدو، وضع صانع القرار في تل ابيب امام خيارين: إما الانسحاب دون قيد أو شرط. أو استمرار الاستنزاف البشري في منطقة الحزام الأمني، وتواصل الاستنزاف الأمني في شمال "إسرائيل" نتيجة استمرار سقوط الصواريخ ردا على كل تجاوز واعتداء إسرائيلي خارج خطوط حمراء محدَّدة.

لم تقتصر نتائج وتداعيات الاندحار الإسرائيلي عام 2000 على تحرير الاراضي اللبنانية (باستثناء مزارع شبعا وكفرشوبا)، بل أدت ايضا إلى اخراج "إسرائيل" من المعادلة الداخلية اللبنانية، التي استطاعت أن تفرض الكثير من الخطوط الحمراء في الداخل اللبناني خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. وكشف التحرير وهم الرهان على الخيار الإسرائيلي لدى جهات كانت ما تزال تراهن عليه في الداخل اللبناني. ووفرت بذلك الارضية لتطويعهم والتكيف مع الواقع السياسي اللبناني ولو من موقع القهر، وليس الخيار الابتدائي والطوعي. وقدَّمت تجربة ناجحة بامتياز أمام الشعب اللبناني، حول الاستراتيجية الواجب اتباعها لحماية الوطن، في ضوء التفوق النوعي والكمي للكيان الإسرائيلي على لبنان.

في الدائرة الاوسع، قدَّمت المقاومة خياراً استراتيجيا للشعوب العربية، ثبتت نجاحته على أرض الواقع،  في مواجهة البدائل التي حاولوا حشرها أمامها: إما حرب تحرير شاملة تخوضها الانظمة والشعوب، لكن المشكلة لا تتوفر مقوماتها وبالتالي ينبغي الاعراض عنها والتفتيش عن بديل، وهو الخضوع للواقع القائم وشرعنته بهدف التقليل من الخسائر والقَبول بالحد الادنى من الانجازات، وهو ما يتم الترويج له تحت عنوان مزور "السلام".

في مقابل هذين البديلين، الاول غير ممكن التحقق في الظروف الحالية، والثاني يعمق الخسائر ويحولها إلى كارثة تاريخية سوف تتوالى تداعياتها مع توالي الاجيال، اثبتت المقاومة أنها تشكل بديلا ناجعا للتحرير من دون انتظار استراتيجية عربية مشتركة، وتتفادى في الوقت نفسه، الخضوع للواقع الذي يحول الاحتلال إلى كيان شرعي. وهكذا لم يعد بالامكان بعد تجربة المقاومة في لبنان، وما أعقبها في فلسطين، القول أنه لا يوجد أمام الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة خيارا عملانية واقعية لمواجهة العدوان والاحتلال الإسرائيلي.

على مستوى العدو، استطاعت المقاومة أن تسقط مفهوماً اساسياً شكَّل منشأ ودافعاً لمساعيه للتوسع طيلة نحو نصف قرن، بدء من قيامها عام 1948، يقوم على قناعة تكرست لديه، ومفادها أنه يمكن له الجمع بين توسع الاحتلال والامن. لكن المقاومة في لبنان، استطاعت أن تحطم هذا المفهوم وأسقطت كل محاولته لقمع المقاومة التي حوَّلت الاحتلال إلى جحيم لجنوده وضباطه. وعلى قدر اطالة أمد المقاومة التي تواصلت طوال فترة الاحتلال... استطاعت ايضا أن تكوي وعي قادة العدو وجنوده وجمهوره. حتى بات مجرد التفكير بالتوسع الجغرافي باتجاه لبنان، يتحول إلى كابوس يقبع على صدورهم. وهو ما ظهر جليا خلال حرب لبنان الثانية، حيث أكدت لجنة فينوغراد أن القيادتين السياسية والعسكرية كانتا حريصتين على عدم التوغل البري الواسع في الجنوب، وعندما حاولت ذلك في عيتا الشعب وبنت جبيل والعديد من المناطق اللبنانية الاخرى، تلقت ضربات قاسية، إلى أن انحشرت قيادة العدو، وحاولت التوغل في عملية برية واسعة، وهو ما أدى في حينه إلى مجزرة الميركافا، التي عمقت مأزقه، وقطعت الطريق على أي أوهام قد تراود البعض حول امكانية اعادة احياء خيار التوسع من جديد.

بمعايير الحاضر، ما زال التحرير بما يمثله من خضوع وتسليم لقادة العدو، في مواجهة المقاومة، يحضر في وعي وحسابات صناع القرار السياسي والامني في تل ابيب، فيشطب خيارات عملانية محدَّدة ترتكز على العمليات البرية الواسعة التي تشكل ركيزة الحسم العسكري الذي تبناه كيان العدو لعقود متوالية منذ العام 1948. وهكذا تم في لبنان دفن مفهوم "إسرائيل" الكبرى، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع مع "إسرائيل" ومن ورائها الاستكبار الاميركي.

2018-05-23