ارشيف من :آراء وتحليلات
مصر.. من يدفع فاتورة الفساد؟
قد تكون إحدى "نوادر" الأمور المتفق عليها وطنيًا، أن مصر تعرضت لخراب مكثف خلال العقود الأربعة الماضية، خراب الإنسان والبيئة الخاصة والعامة، أي دوائر الأسرة والعمل، وصولًا "لتيبس" طال كل مناحي الحياة في مصر، بدفع من عملية ممنهجة، أفسدت الرأس "الحكومة"، وحاولت إفساد الذيل "المجتمع"، وبالتالي تذهب كل محاولات الإصلاح، مهما كانت جادة وواعدة، أدراج الرياح.
الأخطر فيما تعرض له الوطن، صيرورة الفساد نظامًا قائمًا، ارتبط عضويًا بالدولة ذاتها، وسبب مجموعة من الأمراض الاجتماعية للمصريين، ليس أهونها النفاق، ولا آخرها فقدان الانتماء لدى جيل الشباب، إضافة إلى العزوف عن المشاركة السياسية، أو الانضمام لأحزاب، والتي تبدو في ظروف كهذه جلسات للنميمة، أقرب منها لفعل سياسي حقيقي.
الدولة من جانبها تعلن في كل مناسبة أنها جادة في محاربة الفساد، وترفع لواء المواجهة هيئة الرقابة الإدارية، وهي هيئة حكومية أعضائها من ضباط الجيش، ويخدم بها نجل "السيسي"، وتنشر أنباء القبض على كبار موظفي الدولة، مثل ما حدث عند القبض على وزير الزراعة عبد المنعم البنا، ثم محافظ المنوفية بدلتا مصر، وتشهد زيادة في مهامها، من الحرب على الفساد إلى تسهيل الاستثمار.
لكن الهيئة التابعة لرئيس الوزراء لا تتمتع فعلا بالاستقلالية التامة، اللازمة للعمل الرقابي على السلطة التنفيذية، ومع تراجع دور مجلس النواب خلال السنوات الماضية، يجد الفساد تربة خصبة للمزيد من امتصاص دماء المصريين، وتدمير الثروات الوطنية، أو الاستيلاء عليها بأبخس الأسعار.
جذر الأزمة يعود إلى أن الفساد في مصر عضوي، مرتبط بالدولة وخياراتها في تشجيع رجال الأعمال والقطاع الخاص على التوسع، وبالتالي يلجأ المستثمرون إلى تخريب مخطط للقطاع العام، والرشوة والفساد، في ظل أن هناك شركات في مصر تتمتع بحماية سياسية، تتيح لها فرص الربح، وتغلق الأسواق أمام منافسيها، وشركات عامة لها أصول بالمليارات، معروضة للبيع.
على رأس القرارات الحكومية التي تشجع وتقنن الفساد، لا أوضح من قانون تحصين عقود الدولة، الذي يحصن الفساد، والصادر في أبريل ٢٠١٤، والمقضي عليه بعدم الدستورية من قبل أعلى محكمة بالبلاد، هذا القانون ينتزع من المواطنين الحق في الطعن على أية عقود تبرمها الحكومة أو مؤسساتها المختلفة، ويجعل ذلك الحق حكرًا لطرفي التعاقد فقط، أي الأطراف التي استفادت بالفعل من حالة الاشتباه.
لم تتوقف جهود الحكومة في تأسيس البنية القانونية التي تسمح بإفساد الذمم، فعدّلت الحكومة، في 2015، قانون الإجراءات الجنائية؛ لتسمح بالتصالح القانوني مع المستثمرين ورجال الأعمال في جرائم الإضرار بالمال العام، وتتيح إمكانية التصالح في قضايا تم الحكم النهائي فيها، في صورة لتكريس الفساد والخراب، لن تجدها إلا في مصر، تحت نظام حكمها الحالي.
الحكم البات على الجهود الحكومية في مكافحة الفساد، جاء من منظمة الشفافية الدولية، في تقريرها السنوي "مؤشر مدركات الفساد"، وأظهر تراجعًا جديدًا -ومستمرًا- في وضع مصر على مؤشر الفساد، لتحتل المركز 117 في مؤشر الفساد من بين 180 دولة شملها المؤشر في 2017، وكانت مصر تحتل المرتبة 108 من أصل 176 دولة في 2016.
وتدهور الوضع المصري في العام الماضي، طبقًا للمنظمة الدولية، على مؤشر الفساد درجتين في 2017، حيث سجلت 32 نقطة، مقابل 34 العام السابق، ويعني هذا أن مصر قد تراجعت للعام الثالث على التوالي، حيث حصلت على 36 درجة في عام 2015، و34 درجة في 2016، و32 درجة في 2017، بعدما كانت حصلت على 37 درجة في 2014.
الدولة الآن تحاول إيهام شعبها، الذي عاني سابقًا من نتائج الفساد، أن يعاني مرة أخرى لمعالجة نتائج ذلك الفساد! بلا أي تبعات على الفاسدين أنفسهم، أي أن الشعب الذي دفع من مقدراته وثرواته سابقًا يجب أن يدفع من جديد، كأنها صخرة سيزيف الإغريقية، لعنة وتريد امتصاص الجلد والعظم، بعد أن امتصت اللحم والدم.
النظام يقول إنه لا بد من إصلاح يكنس الماضي، وجب على المجتمع دفع تكاليفه المرهقة والباهظة، الآن وليس غدًا.. لكن من يدفع! حاسبوا موظفي الدولة، واشنقوا كل المسؤولين والوزراء المدانين بالفساد في الشوارع، تحصلوا على فروق الأراضي والشركات التي بيعت بالبخس.. وقتها فقط، طالبوا الجميع أن يتحمل نصيبه من التركة الملعونة.