ارشيف من :نقاط على الحروف
ثمانية عشر عاماً على التحرير.. وما يزال كأنه البارحة في ذاكرتي
في آذار العام 1999، أجج خبر اقتحام مجموعة من طلاب الجامعات اللبنانيين بلدة أرنون وخلع الشريط الشائك فيها الكثير من المشاعر، تركتنا الحادثة في حالة ترقب، اذ كان تحرير أرنون يتم هكذا، فلماذا لا يعود باقي الجنوب لأهله؟ ومتى سيأتي أوان المسير باتجاه باقي الأراضي المحتلة؟ والسؤال الأهم بالنسبة لي: متى سيتاح لي رؤية عيناتا، ولأول مرة في حياتي؟ لم أغبط أحداً سعادته كما أغبطت أهل أرنون سعادتهم في ذلك اليوم!
بعد أرنون، تغير المشهد بالنسبة لي، وأنا القادمة من دمشق منذ العام 1996، ولم أكن أعرف عيناتا من قبل، واذكر أنني أخذت إحدى صورة الضيعة من أحد أبناء عمومي واحتفظت بها وكأنها كنز ثمين. فأينما ذهبنا كانت عيناتا في قلبي، لا أعرف لماذا؟ لربما كانت محبتها تنتقل إلي مع زيارات جدي في كل عام وهو يخبرنا عن الضيعة وعن أبناء عمومتنا هناك! ربما كان الشوق للأرض ينتقل مع الجينات التي نحملها من أجدادنا عبر الزمن.
صرت أتابع السياسة في لبنان عن كثب، وأتابع عمليات المقاومة التي لم تكن تبثها جميع التلفزيونات في لبنان. وأصبحت أخبار ضربات الإسرائيلي من الأخبار التي تجب ملاحقتها واحدة بواحدة. وبات تاريخ المقاومة قبل أرنون من عمليات مثل عملية خالد علوان، وهروب أنصار، وعملية أحمد قصير، وعملية الشهيد ملاك، واغتيال العميل حسين عبد النبي، وبعده العميل عقل هاشم، واغتيال الجنرال الإسرائيلي إيرز غيرشتاين، له وقع خاص. وبعدها توالت العمليات وتوالى سقوط الإسرائيليين ومن عمل معهم. كل واحدة من هذه الأخبار كانت تؤذن بأمل بفجر جديد، ولا أبالغ. فطريق التحرير لم يكن سهلاً، ولكن لحظة سماع الخبر في العام 2000 بدا وكأننا بتنا على شيء وصحونا في عالم آخر، في الحقيقة شعرت وكأنني أمشي في الهواء.
جاء الـ 23 من أيار، عدت إلى المنزل من عملي لتستقبلني أختي بقولها لقد تحرر الجنوب. ضحكت مستنكرةً! ونظرت إليها باستياء: شو بدها تستلمني! فهي تعرف إيماني بأن الأمر قادم، وتحاول أحياناً أن تغيظيني بأخبار تؤرقني ثم يتضح أنها تلعب أحد مقالبها. لم أكن أريد أن أقع تحت تأثير المقلب الجديد. قلت لها، أن تجد مزحة ثقيلة أخرى، ولكنها بدأت بالحلفان بأن ما تقوله صحيح. استدرت إلى أمي وسألتها إذا ما كان الكلام صحيح، فأكدته، توجهت نحو غرفة المعيشة لأجد بسمة عريضة تملئ وجه أبي، الخبر صحيح اذن؟ ضحك وأشار إلى التلفاز. كان المشهد سحري ومليء بالعظمة، الناس يتوجهون نحو الجنوب وضاقت الطرقات بالسائقين. يجب أن نذهب، يا إلهي سنرى عيناتا أخيراً وسنتنقل بين تلالها، وسنزور البيوت، لقد باتت عيناتا على بعد ساعتين من بيروت. لم تعد عيناتا تحتاج إلى تصاريح ومعابر تخترقها تهكمات العملاء، والقصص المقرفة والمقلقة، التي كنا نسمعها ممن كانوا يضطرون إلى الدخول والخروج من الجنوب.
واتخذ القرار في العائلة، سنسير مع المواكب إلى الجنوب في اليوم التالي. ولكن وللأسف عندما حضر والدي إلى المدرسة التي كنت أعمل بها رفض المدير إعطائي إجازة. كنت أتمنى أن تكون الرحلة الأولى إلى الجنوب مع العائلة، ولكن لم يقدر لي ذلك. ولكن كم كانت مفاجأة الجهاز الإداري في المدرسة كبيرة، عندما ابتدأت سيارات الأباء تصل الواحدة بعد الأخرى تطلب أبناءها وبناتها لأن الجميع سيبدأ رحلة العمر جنوباً. فتلاميذ المدرسة كما الكثير من الشباب والشابات لم يطأ هذه الأرض المقدسة وكبروا بعيداً منها. ولكننا نتذكر في تلك اللحظة وفي كل اللحظات درب الدم الطويل الذي عبدته أجساد الشهداء حتى وصل الطريق إلينا لنعبره إلى جنوبي الجنوبي. في الأربعاء، 24 ايار كان المدرسة خالية تقريباً من الطلاب ومن الواضح أن اليومين القادمين لن يكونا أيام تعليم حقيقية. وبالرغم من أخبار قصف اسرائيلي ذهب ضحيته شاب أو اثنان لم أعد أذكر، لكن السيل الجارف نحو الجنوب لم يكن ليوقفه شيء في ذلك اليوم.
بعد يومين ابتدأت العطلة الإسبوعية. ركبت السيارة وانطلقت. كانت ما تزال عائلتي هناك. ومنذ عودتنا إلى بيروت في العام 1996، قمت بعدة رحلات في لبنان، لأتعرف على بلدي الذي جئته زيارات معدودة ولكن بشكل عرضي. ذهبت في رحلات إلى الشمال وإلى الشرق، ولكن أكثر الرحلات متعة كانت تلك التي نتجه بها جنوباً لنصل إلى بلدة المنصوري والتي كانت تقع خلف حاجز قوات الأمم المتحدة أو الرحلات إلى النبطية والبقاع الغربي والوقوف مقابل عظمة جبل صافي.
في أول سبت بعد التحرير، أصبح من الممكن أن أذهب إلى الجنوب، الذي بقيت أراقب الأحداث فيه على شاشات التلفاز واحدة بواحدة. كنت أشعر بكل نبضة قلب وبكل صوت وبكل نشيد صدح، وبكل زلغوطة انطلقت بها حناجر النساء! ويوم السبت يمكنني أن أعيشها جميعاً. أدرت المذياع على الأناشيد الوطنية، ووضعت خطة الطريق: فالسيارة ستتجه نحو صور ومنها ستقطع الحاجز الأممي إلى الناقورة ومن ثم باتجاه قضاء بنت جبيل لأصل إلى عيناتا. كان المنظر خلاباً، الناقورة والبحر والجرف الذي ينحدر بحزم نحو البحر، ومن ثم الجبال الخضراء، اذا كان الربيع في أوج جماله في ذلك العام. وكأن الأرض والسماء تكتسبان أجمل حللهما من أجل تلك المناسبة العظيمة. في الحقيقة كان علي أن أسأل على طول الطريق، وأسجل أسماء القرى التي يجب أن أمر بها. فهي جديدة تماماً بالنسبة لي. وكان الأهالي يشرحون الإتجاه الصحيح والبهجة تملئ الوجوه. حقيقة، مهما يقول المرء في ذلك اليوم فلا يمكن أن يوفيه حقه. وأمام عظمة المشاهد بات واضحاً أنه لو قدر للإسرائيلي لما خرج من أرضنا أبداً ولولا الأوجاع البارحة التي سببتها ضربات المقاومة لكنا ما زلنا نحلم بعيناتا.
أصبحت الرحلات إلى الجنوب ابتداءاً من ذلك اليوم شيئاً يشبه الحج. ففي كل عام في الخامس والعشرين من أيار نقود سياراتنا لنرى الجنوب، أوكلما جاء أحد من أصدقائنا أو أحد من الأقارب، وخاصة من خارج لبنان. كانت الرحلة لزيارة الجنوب تحتل أهمية خاصة في جدول الرحلات في لبنان. ولكن الرحلة التي لا ماتزال ماثلة في بالي كما البارحة، والتي قمت بها في نفس العام، هي تلك التي كانت إلى البياضة في قضاء صور، اختلف المنظر تماماً، فبدلاً من المدفع الذي كان يهدد القرى المقابلة للشريط المحتل، والذي مثل رعباً لأهالي المنصوري والقليلة ومجدل زون وغيرها، كنا نحتل مكانه نحن وأصدقائنا والكثير من أهل الجنوب فوق التلة، وحولنا ذلك المنظر الجليل الذي يمتد من الناقورة إلى عكا يخطف الألباب. نظرت يومها من خلال المنظار باتجاه فلسطين، شعرت وكأنه بإمكاني أن أمد يدي واسلم عليها. للحظة وقف قلبي هناك، وانقطعت أنفاسي أمام جلالة فلسطين. ثم اتجهنا جنوباً نحو حاجز الناقورة، لم يكن الحاجز وقتها يبعد هذه المسافة عن الحدود. أوقفنا السيارة ومشينا باتجاه البوابة، التي اذ ما دفعتها فسأدخل الأراضي الفلسطينية. وبمسيرة على الأقدام يمكننا أن نتناول الغذاء في عكا؛ لكن عندها نادانا عنصر من الجيش اللبناني "هيي لوين رايحين، ارجعوا ارجعوا، ممنوع، بكن شي". أجبنا من هنا فلسطين، "ضحك وقال مين بيعرف شو بيصير!". عدنا إلى المنصوري لنتغذى في بيت أحد الأقارب المقربون، كان ذلك في 28 أيلول/ سبتمبر، عدنا وكان التلفاز يبث صور محمد الدرة ووالده، المنظر الذي لا يغيب عن البال. وكانت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية قد انطلقت.
أطلق التحرير الإنتفاضة الثانية، وذهب على مذبحها العديد من الشهداء، الذين بتنا نعرف أن دمهم لن يضيع هباءً ولابد أنه سيعبد الطريق من الناقورة لنقود السيارة إلى عكا وكل فلسطين.