ارشيف من :نقاط على الحروف
التحرير ولد راشداً
صار عمر التحرير ثماني عشرة سنة، بلغ سن الرشد، هذا معيار العلم والقانون والطب، لكن معيارًا أقوى سطوة يفرض نفسه كلما حضرت الوقائع التي أوصلت الى التحرير، هذه الوقائع لم تعترف بالمعلّب من المعايير ولم تتماشَ مع السائد من النظريات، يتجلى ذلك في تحدّي نظرية العين والمخرز.
والتحرير هذا هو ناتج المقاومة، ملتصق بها التصاق الظفر باللحم، لا خلاف في ذلك، هذا سيعني بالضرورة انها لم تكن راشدة عندما انتجته!! ستصدق في هذه الحالة رواية انه كان انسحاباً مقرراً مسبقاً!!
يحق لنا السؤال هنا، هل كانت راشدة عندما أنتجته؟ الرشد بما يعني النضوج بأبعاده كافة.
لا تجهد نفسك بالنظريات هنا، تعامل مع الوقائع، كيف يمكن لعدد من الشبان وفي لحظة سقوط كل الشعارات والبنادق تحت سطوة اجتياح "إسرائيل" بشارونها ان يفكروا بعملية كعملية الشهيد احمد قصير، ينقل العارفون ان عماد مغنية ورفاقه حينها كانوا يريدون ان يكملوا المشهد باستهداف مركز آخر بالتزامن مع مقر الحاكم العسكري في صور وهذا لم يكتب له النجاح، كانوا مقتنعين ان "إسرائيل" لن تبقى في لبنان اذا احصت 500 جندي في النعوش.
منذ تلك الطلقات الأولى كان الهدف واضحا ودقيقا ومحددا، لا يجب ان يبقى المحتل.
وضع المسمار الأول في نعش المشروع ، وعندما استعان بالمارينز والقوات المتعددة الجنسيات، "عادت الجيوش للغرب بالفشل"، اللافت كان ان هذا استثمر في وجه "إسرائيل"، وفي احدى مناسبات يوم القدس بعد عملية المارينز وقف السيد حسن نصر الله وخلفه صور عن العملية ليصوّب بوصلة الصراع بأن العملية كانت لضرب الغطاء السياسي للمشروع الإسرائيلي في لبنان.
تحرير صيدا عام 1985 كان الثمرة الأولى، وفي صلب المشاريع التقسيمية والالغائية استطاع المقاومون جعل ذلك مناسبة جامعة عابرة للطوائف والمذاهب، بهذا المستوى تعززت رعاية الجمهورية الإسلامية الإيرانية لها، وتطورت العلاقة مع دمشق ستشكل سنداً قوياً في القادم من الأحداث.
بات للمقاومة عنصر تركيز واحد، برنامج عمل واحد، استهداف المحتل، ستتصاعد العمليات النوعية، ستوثق الهزيمة بالعدسة والصحيفة واللافتات والملصقات والاناشيد، العبوة واقتحام الموقع والقنص والاسر وما سواها باتت خبرا يومياً في نشرات الاخبار المحلية والعالمية كل هذا في بلد بلغت حربه الاهلية أعلى مراحل الجنون.
اتفاق الطائف جاء لينهي الاقتتال اللبناني الداخلي، ما نتج مغانم تقاسمها المتقاتلون المتصالحون تحت المظلة الدولية الإقليمية لم يصرف المقاومة عن برنامجها، استفادت من تلك الفرصة للهيكلة والتنظيم والتموضع أكثر داخل مجتمعها والتسديد مباشرة على رأس العدو، ورغم اغتيال امينها العام حينها السيد عباس الموسوي استطاعت تحويل التهديد الى فرصة واستثمار شهادته في سبيل تحقيق الأهداف المرسومة.
عام 1993 كانت هذه المقاومة أمام الاستحقاق الأخطر منذ تصاعدها، سبعة أيام من العدوان في تموز لم تكسر عزيمتها ولم تصفِّ الحساب، بعدها فتح مؤتمر أوسلو جرحاً في شوارع الضاحية الجنوبية تحت جسر المطار في أيلول/ سبتمبر من ذلك العام ، لكن امينها العام عرف كيف يضمده بسرعة ويقذفه بوجه "إسرائيل"، الآن سيصبح العدو في كل المناطق المحتلة هدفاً للمقاومة وستدخل معادلة الكاتيوشا الميدان بقوة.
يعترف قائد المنطقة الشمالية الأسبق "عميرام ليفين" بذلك حيث يقول "ان الأعوام بين 1993 و 1996 كانت قاسية جدا على إسرائيل واضطرت فيها الى سحب جنودها الى داخل المواقع المحصنة، حتى ان صواريخ الكاتيوشا لم تتوقف".
اتخذ القرار بعدوان شامل على المقاومة في نيسان/ أبريل 1996، عرفت ان كلمة السر في الانتصار هي الصمود واستمرار اطلاق الكاتيوشا، بل ذهبت الى تعميق علاقتها بدمشق حافظ الأسد وافتتح علاقة ببشار حافظ الأسد اثمرت تفاهماً شرعها دوليا وأعطاها الحق بالدفاع عن مدنييها واستهداف مدنيي العدو في حال الاعتداءات.
أصبحت الاساسات متماسكة اكثر، المواقع تدك يومياً والعمليات النوعية أصبحت تتزاحم، أيلول/ سبتمبر 1997 ستمزق نخبة النخبة في انصارية، هذه الحادثة فعلياً تردد صداها في قيادة المقاومة بأن التحرير بات مسألة وقت، هذه عبارة القائد العسكري للمقاومة حينها السيد مصطفى بدر الدين " السيد ذو الفقار "
تركز برنامج العمل اكثر، يدخل الحاج عماد مغنية الى القيادة العسكرية للمقاومة، جاء باستراتيجية تفعيل الضرب على الرؤوس، استهدفت القيادات وعندما بدأ الحديث عن نية العدو بالانسحاب قرر انه سيكون تحت النار، سنصنع التحرير قال الحاج رضوان.
الانسحاب من جزين فرصة، قدرت قيادة المقاومة ان العدو سيترك عملاء لحد بوجهها، تكثف استهداف مواقعهم، نسف عرمتى والبياضة، بالموازاة ستكون حركة شعبية على غرار ما حصل في جزين، الأهالي اصبحوا أمام بوابة القنطرة، انهار جيش العملاء، تساقطت المواقع، لم يحصل أي ضربة كف، حمام الدم الذي توقعه العدو اصبح أعراس انتصار وطنية، وتحت جنح الظلام انسحب العدو، تلك الأيام كانت المقاومة تبلغ عامها الثامن عشر بعد الاجتياح ...
التحرير لم يبلغ سن الرشد، التحرير ولد راشداً.