ارشيف من :ترجمات ودراسات

غزة تنتصر في الحرب اللامتماثلة

غزة تنتصر في الحرب اللامتماثلة

ماهية الحرب اللامتماثلة
بداية لا بد من تعريف مختصر لهذا الشكل من الحروب حتى تتضح الفكرة حيث: "تشكل (الحرب اللامتماثلة ـ Asymmetric warfare ) في مفهومها البسيط، تعبيراً عن التفاوت في القدرات العسكرية، تنظيماً وتسليحاً وتجهيزاً، للأطراف المنخرطين في المواجهة. لكنها، وبما هو أبعد، تعني نظامأ مختلفاً للصراع يخاض، من جانب القوى الأضعف، من خارج المعايير المتداولة للحروب التقليدية التي تتبناها الجيوش النظامية، إن على مستوى التكتيكات والاستراتيجيات، أو على صعيد فلسفة الحرب وأهدافها ككل."
وتجد الجيوش والقوات النظامية التقليدية مهما بلغ تسليحها وتدريبها صعوبة كبرى في مواجهة هكذا نوع من المواجهات ، لأنها تحارب عدواً يعمل بنظام لامركزي ويعتمد جزئياً على مبادرات ذاتية متجددة الوسائل ولا يقوم على نمط محدد للمعارك ولا يتطلب لتحقيق أهدافه بالضرورة عتادا كثيفا أوحتى أسلحة ويستخدم عنصر المفاجأة.
لذا فإنه من الصعوبة بمكان أن يتوقع العدو التغلب على هكذا خصم منتشر ومتعدد الأوجه بإستراتيجيات الأمن والحرب التقليدية وتكتيكاتها . حيث لا يمكنه المناورة ولا الخداع والإبداع الإستراتيجي والسرعة وتغيير ساحة ومكان المعارك واستخدام تقنيات وأسلحة الحرب والقتال المتقدمة والمتطورة، لتحقيق انهيار الخصم (وليس بالضرورة القضاء عليه)،
فخلافاً للحرب الكلاسيكية التي تعتمد على الحسابات والعناصر التي تحقق التطبيق الأمثل لمبادئ الحرب، تسقط في الحرب اللامتماثلة معظم الإعتبارات التكتيكية والتعبوية التي ارتكزت عليها الحروب الكلاسيكية لمئات السنين، لمصلحة منظومة قتالية مختلفة، تصبح الأفضلية فيها للجماهير والقوى المنخرطة في مواجهة الجيش المحتل (العدو)، وعلى النحو الذي يسمح لتلك القوى بإجهاض وتعطيل مكامن القوة والتفوق عند الطرف الأقوى وهو العدو، وجره إلى مواجهات من النوع الذي يلائمها، والذي يسمح على المدى الطويل باستغلال نقاط ضعف هذا العدو واستنزاف قواه في سلسلة واسعة من الاشتباكات الصغيرة المجهدة التي تعتمد على الخداع والتمويه واخفاء الهدف والمباغتة .

جوهر وقيم الحرب اللامتماثلة

خلافاً للحرب الكلاسيكية التي تحسب فيها الأطراف موازين القوى التي يتداخل في تكوينها حجم القوات ونوعية أسلحتها وتقنياتها تبدو معادلة النتائج في الحرب اللامتماثلة مناقضة تماماً بحيث يمكن للفريق الأضعف التعويض عن ضعفه وقلة امكانياته في هذه الجوانب باستثمار عناصر أخرى تتلاءم بشكل متناسب مع هذا النوع من الحروب.
والعناصر التي يعتمدها الضعيف عادة ليتفوق فيها على القوي أو القوة الغاشمة هي:
1ـ لا محدودية الهدف الذي تسعى إليه القوة الأضعف (التحرير).
2ـ الاشتباك المستمر بالوسائل المناسبة وعدم قطع الاشتباك مع العدو مهما انخفضت حدة هذا الاشتباك.   
3ـ فرض الضعيف القادر على التحدي والمواجهة لنموذجه كمثال لعناصر المجتمع والأمة التي لم تنخرط بعد في القتال وتقديم الدليل على امكانية موازنة أو تحدي أو هزيمة العدو.
ويعتمد كل ذلك على منظومة ذات ركائز ثلاثة وهي:
1ـ نوعية الاشتباك الذي يخوضه الاضعف.
2ـ حرية إختيار مكان المواجهة وزمانها وفرضهما على العدو.
3ـ الإستفادة من الدعم الذي تقدمه بيئته الحاضنة.

تطبيقات الحرب اللامتماثلة :  حراك غزة مثالاً

لعل أفضل مثال على تميز مدرسة المقاومة في تطبيق مبادئ الحرب اللامتماثلة في جميع مستوياتها (العسكرية والشعبية) هو التجربة التي نعايشها منذ انطلاق مسيرات العودة في غزة في 30 آذار 2018 .
فغزة المحاصرة التي كانت تعاني من آثار العزل والانقسام السياسي والمتهمة باحتضان " الارهاب " بالمفهوم الصهيوني والغربي أعطت لمنظري الحروب العسكريين مثالاً رائعاً للمدى الذي قد تسلكه القوة الاضعف في تطبيق مفهوم تعويض القوى ان على مستوى السلوك أو على مستوى المسار والتخطيط واجتراح البدائل. حتى يمكننا الجزم بأن هذا الشكل من المواجهة يمكن وضعه في خانة الظاهرة الفريدة لأسباب سنتطرق اليها لاحقاً.
فالعدو الذي يواجهه جمهور الحراك في غزة يعتبر من الجيوش الحديثة والذكية والتي تمتلك أعلى التكنولوجيات العسكرية وتتمتع بقدرة استخبارية مهمة ولديها الصلاحيات الكاملة وغير المقيدة للتصدي لأي شكل من أشكال المواجهات أو الحروب بالقوة النارية والطاقة اللازمة.
في المقابل فان شباب غزة الذي يواجه باللحم الحي آلة القتل الصهيونية يمتلك إرادة المواجهة والحافزية على البقاء فيها مهما كان التفاوت بينه وبين عدوه  ويمتلك القدرة الدائمة على الابداع والابتكار وانتاج وسائل الدفاع التي تفاجئ وتربك العدو يؤازر ذلك استعداده للإنخراط في صراع طويل الامد طابعه معقد ،يؤمن فرصة ذات مصداقية لامتلاك القدرة على قلب المعادلات وتغيير النتائج.
وقد حقق مخططو مسيرة العودة الكبرى منذ انطلاقة الحراك الشعبي في غزة بتاريخ 30 آذار 2018 مجموعة من الانجازات منذ اليوم الاول:
1ـ حددوا هدفاً استراتيجياً لمسيرة العودة ذا بعد ايديولوجي وهو العودة إلى الأراضي المحتلة
2ـ تمكنوا من حرمان العدو من عنصر المبادأة حيث لم يستطع صانع القرار السياسي الصهيوني تحديد الاتجاه السياسي العام لقواته العسكرية
3ـ فرضوا على القوة العسكرية الصهيونية (التي كانت على تماس مع الميدان الذي جرت عليه مسيرات العودة ) التعامل مع ما يفرضه الميدان لحظة بلحظة وبأسلوب تكتيكي
4ـ لم يستطع القادة العسكريون الصهاينة صياغة خطة تعبوية شاملة تتعامل مع الأحداث بكليتها فالميدان يتغير بسرعة بسبب التكتيكات المتعددة التي فرضها الابداع الشعبي الذي لم يكن يواجه على شكل انساق إلا في اللحظة النهائية وهي عندما يقترب الجمهور من السياج وقبل الخرق بقليل ويصبح الجنود الصهاينة في حالة الخطر الشديد .
ويمكننا الجزم إذا أسقطنا ذلك على مسيرات العودة أن سوء التقدير الصهيوني وضعف المعلومات الاستخبارية الاستراتيجية  لدى العدوعن طبيعة وأهداف مسيرات العودة الكبرى قد حرمت جيش العدو من التحضير الكافي لمواجهة هذه المسيرات فكانت وبرغم التفاوت الكبير بالقوى مجمل نشاطات العدو هي:

غزة تنتصر في الحرب اللامتماثلة


ـ نشاطات أقرب إلى الدفاع الثابت بمواجهة كم هائل من الأهداف البشرية
ـ استخدام اسلوب مناطق القتل العشوائية
ـ التعامل مع ميدان لا يمتلك فيه العدو معلومات تكتيكية استباقية حيث برز بوضوح أن المعلومات الاستخبارية التي كان يستخدمها العدو ميدانياً كانت معلومات فورية وكل من يتعاطى بفن الحرب يدرك مدى عدم فاعلية وتأثير المعلومات الفورية تكتيكياً في تحقيق المبادأة وسهولة المناورة.
تعددت أخطاء العدو فكان لا بد له من اجتراح مبادرات تكتيكية ميدانية والعمل على مراكمتها وبناء ظرف عملاني ملائم له مما كشف أغلب خططه ومبادراته:
1ـ استهداف المطلوبين والناشطين من خلال بنك أهداف في الأسبوع الاول واستغلال نزول الشباب بوجوه مكشوفة لازاحتها بالقتل أو بالاعاقة.
2ـ كشف أساليب عمل المتظاهرين والتعامل معها فوراً نتيجة لتحركهم مكشوفين في الاسبوع الأول فظهرت للعدو نقاط التجمع والمحركين الميدانيين وطرق التقرب من السياج الشائك .
3ـ الضغط على اصحاب الباصات لتقييد وسائل الحشد والتسهيلات اللوجستية لنقل المتظاهرين.
4ـ اعتماد آخر ساعات يوم الجمعة كوقت لتصعيد عمليات استهداف المتظاهرين نتيجة للاسترخاء الذي يسبق نهاية يوم الجمعة.
 هذه التكتيكات التي استخدمها العدو بشكل مكشوف سمحت للمشرفين على مسيرات العودة بدراسة الثغرات التي استغلها العدو ونفذ منها للتأثير على زخم الحراك فعمل المنظمون بشكل لحظي وعلى مدار الساعة لمحاولة تعويضها بالامكانيات واساليب العمل المتاحة:
1ـ تغطية وجوه معظم الناشطين بالأقنعة أو بالكوفيات مما حرم العدو من تشخيص الأهداف.
2ـ احراق دواليب الكاوتشوك وخلق ستار دخاني اسود كثيف يغطي المتظاهرين ويحجب الرؤية عن قناصة العدو ونقاط رصده.
3ـ تأخير ساعات الاقتراب من السياج الشائك حتى الساعتين الاخيرتين من يوم الجمعة وتنفيذ مناورات كاملة في هذا المجال تتولاها مجموعات متخصصة بذلك (وحدة حماية المتظاهرين من قنابل الغاز والدخان – وحدة حرق الدواليب – وحدة قص السلك – وحدات الاقتحام – مجموعات المشاغلة والتضليل) والاستفادة من تراجع حجم الضوء النهاري لتحقيق اختراقات متعددة للسلك كانت تنفذبشكلها النهائي وهو حرق المواقع مع حلول الظلام.
4ـ المناورة في تقدم المتظاهرين من السلك الشائك بحيث لم يعرف العدو اتجاه الهجوم الرئيسي إلا بعد حصوله وساعد في ذلك اعتماد القيادات الميدانية اسلوب التقرب غير المباشر بالاعتماد على التحرك من داخل المخيمات الخمسة المنتشرة على المنطقة الفاصلة شرق غزة وهو ما يشتت انتباه العدو ويصرف نظره عن نقطة الثقل أو موقع الاختراق الرئيسي للسلك الشائك وهذا ما مكن المتظاهرين من تحقيق 3 اختراقات في يوم واحد وفي ثلاث نقاط متباعدة .
5ـ اقامة سواتر رملية في النقاط المنبسطة التي تتموضع فيها  قوات العدو على نفس المستوى من الارتفاع  مع المتظاهرين وهذا ما مكن المتظاهرين في هذه النقاط اغلب الاحيان من الاستفادة من طبيعة الارض والاقتراب من السواتر والموانع القريبة من جنود العدو ومشاغلتهم أطول فترة ممكنة بحرق الدواليب أو باستعمال المقاليع أو باستعمال الحجارة أو بنزع كميات كبيرة من السياج الشائك.
6ـ خلق حل مبتكر لنزع الشريط الشائك عبر مجموعات خاصة تقوم برمي مرساة صيد مربوطة بحبل طويل ومتين وغليظ و شديد الاحكام في قلب الاسلاك الشائكة وفور تعليقها يقوم عشرات من الشبان بسحب الحبل الطويل الى مكان بعيد وعرضه على الجمهور المحتشد في عملية تحفيز معنوي لما لقلع الشريط الشائك من رمزية لدى الشعب الفلسطيني.
7ـ استخدم الصهاينة نوعاً من الطائرات المسيرة الكبيرة التي يمكنها حمل اثقال تصل الى 7 – 10 كيلو غرام وتنفذ مهمات تصوير واستطلاع وإغارة بقنابل الغاز مما صعب الأمر قليلاً على المتظاهرين فابتكروا حلاً سريعاً لها وهو صيدها بالطائرات الورقية وبأدوات خاصة تشبه المقاليع ( النقيفة ) وبرماة مهرة ولم يكد يمر على استعمال الطائرة اسبوعان حتى سحبها الجيش الصهيوني من الخدمة وتاوقف عن استعمالها.
8ـ استخدام ابتكار الطائرات الورقية الحارقة التي كانت تربك الجنود الصهاينة باستخدامها لحرق النباتات والحشائش الملاصقة للمواقع والنقاط العسكرية المؤثرة و كانت تبث الرعب أيضاً بين المستوطنين وتحرمهم في شهري نيسان وايار وهما شهري الحصاد من الاستفادة من آلاف الدونمات المزروعة عبر حرقها بطريقة منظمة أو عشوائية.
 

غزة تنتصر في الحرب اللامتماثلة

محاولة العدو فرض منطقه في شكل المواجهة

وقد حاول العدو منذ بداية المسيرات ربطها بالمقاومة وتفريغها من محتواها وطابعها السلمي والايحاء بأنها شكل من الأشكال الجديدة التي تمارسها حركات المقاومة لفرض الارادة على الكيان الصهيوني وسعى العدو في هذا المجال من خلال الافراط بقتل وجرح المتظاهرين ( 120 شهيداً و 13500 جريحاً ) إلى جر المقاومة لمربع القتال واجهاض الحراك وواكب ذلك محاولات صهيونية يومية لاستفزاز المقاومة من خلال اغارات جوية وضربات مدفعية  ليلية على نقاط للمقاومة تسببت باستشهاد 15 مجاهداً  وكان أعنفها ليل الأحد 27ـ5ـ2018 وفجر الاثنين حيث استشهد 6 مقاومين 4 من سرايا القدس و 2 من كتائب الشهيد عز الدين القسام في محاولة واضحة لجر غزة الى معركة وهو ما حصل ولكن بحسابات المقاومة التي أدارت الرد الصاروخي ببراعة وابرزت للعدو حجم التماسك والتلاحم  بين المقاومة وشعبها باعتبار أن المقاومة هي ظهير للشعب وحام لحراكه كما أبرزت وحدة المقاومة على المستويين السياسي والعسكري وكشفت عن أن المقاومة طورت من تعاونها لتصبح قوة موحدة في التخطيط والادارة والتنفيذ وكان الرد المتدرج المقرون بالجاهزية ووجود قدرة صاروخية تمتلك المزيد من المقاجآت رسالة قوية للعدو أن خيار موجهة الحراك المدني المجهد والمستنزف للطاقة العسكرية هو الخيار الأسلم وأن الانتقال للتصعيد العسكري ينذر العدو وجبهته الداخلية بتداعيات لا يمكنه تحملها.
في الختام إذا جاز لنا أن نعطي مثالاً تطبيقياً عن الحرب اللامتماثلة يمكننا وضع المواجهة الذكية الدائرة بين جنود الاحتلال الصهيوني وشباب قطاع غزة على تخوم غزة الشرقية منذ 30ـ3ـ2018 في قائمة أفضل الأمثلة لهذه الحرب لما في هذه المواجهة من تفاوت هائل في الامكانيات العسكرية والتكنولوجية واللوجستية بين العدو والشباب الفلسطيني ولما لهذه المواجهة أيضاً من مؤشرات ومعطيات نظرية دالة يمكن استخلاصها والخروج منها بتعريف واحد وهو أن الصراع الذي يخاض بميدان مخيمات مسيرة العودة الكبرى في غزة هو حرب لا متماثلة بامتياز.

2018-05-31