ارشيف من :آراء وتحليلات
العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية من المساكنة الى الطلاق !
ترتسم في الأفق ملامح علاقة جديدة بين أوروبا وأميركا. فالولايات المتحدة باتت ترى دورها الإقليمي بشكل مختلف، بحيث تريد أن تحقق نجاحات وتفوز في اللعبة العالمية ولا تريد أن تكون مبعوث سلام. والإدارة الأميركية الحالية تسرّع في هذا التباعد. فالخلافات بين الجانبين حول الاتفاق النووي والعقوبات الأميركية على الشركات الأجنبية التي تستمر في أنشطتها التجارية مع إيران، عرّضت هذه العلاقات لهزة كبيرة.
هذه الاهتزازات بين الطرفين ليس جديدا، فقد مهدت لها عوامل كثيرة، منها:
ـ أن الولايات المتحدة تعتبر أن التعددية ليست مكسبا لها، وهي لم تقبل يوما بشكل كامل بأن الاتفاقات المتعددة الأطراف لها الأولوية على القوانين الوطنية.
ـ انزعاج الولايات المتحدة من تحملها العبء المالي الأكبر في حلف شمالي الأطلسي الذي أنشأ بالأساس لحماية أوروبا.
ـ ابتعاد الولايات المتحدة عن أوروبا بدأ في ولاية أوباما الثانية، على اعتبار أنه لا يجب أن تبقى مشكلة الاتحاد الأوروبي هي أساس تركيز السياسة الخارجية الأميركية، وأن مناطق أخرى يجب أن تحظى بالأولوية.
واليوم، يكرر دبلوماسيون أوروبيون همساً بأن ترامب يسعى لتفكيك الاتحاد الأوروبي. وما يزعج الأوروبيين أيضاً تفرد ترامب باتخاذ القرارات، وهو يعرف أنه سيغضب حلفائه عبر الأطلسي. في البداية كان انسحابه من اتفاق المناخ الذي تم التوصل إليه في باريس. من ثم كان قراره فرض ضرائب على استيراد السيارات الألمانية، وعلى واردات أوروبا من الصلب والألومنيوم. مما دفع بالاتحاد الأوروبي إلى التقدم بطلب لمنظمة التجارة العالمية لإجراء مشاورات مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية التي أعلنتها واشنطن، يضاف عليها انتقادات ترامب الدائمة لسياسة الهجرة التي تتبعها ألمانيا، ومديحه المتكرر لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بعدها كان قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وأخيرا انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني الذي أصاب الأوربيين بالخيبة .
انفراد ترامب بقراراته لوحده بدون مراعاة شركاءه الأوربيين وضعهم في موقع صعب ومحرج، وهذا ما دفع الأوربيين إلى الإعلان أنه من الآن وصاعدا سيكون على أوروبا أن تأخذ مصيرها بيديها وتتحمل مسؤولياتها الدولية لأن تغييرا كبيرا يحدث، إذ إن هناك إدارة أميركية جديدة لا تعتبر أوروبا جزءا من مجتمع دولي تعمل فيه معا، وترى العالم كساحة يجب على كل فرد فيها أن يجد طريقه وحده. لذا لم تتردد أوروبا كثيرا، فاتخذت قرار التحدي لثلاثة اعتبارات:
الأول: أخلاقي ـ قانوني، إذ لم يكن أمام الدول الأوروبية ما يبرر الانسحاب من اتفاق دولي لعبت دوراً أساسياً في التمهيد له، خصوصاً وأنه لم يصدر عن الوكالة الدولية للطاقة النووية أي تقرير يشير من قريب أو بعيد إلى إقدام إيران على مخالفة أو انتهاك أي من بنوده.
الثاني: سياسي ـ أمني، حيث باتت الدول الأوروبية أكثر اقتناعاً بأن انهيار الاتفاق مع إيران سيؤدي حتماً إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
الثالث: اقتصادي ـ تجاري، حيث أن قرار الانسحاب الأميركي من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات على إيران سيمكن الولايات المتحدة من فرض نفسها كشرطي وحيد للاقتصاد العالمي، الأمر الذي ترفضه أوروبا وترى أنه يتناقض تماماً مع مصالحها الاقتصادية والتجارية.
ومؤخراً أظهرت المؤشرات والمعطيات الى أن التوقعات الاقتصادية لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران هي كبيرة، كونها لن تقتصر على ايران بل إنها ستنسحب على أوروبا وروسيا، وستطال أسواق النفط وحتى إنفاق المستهلك الأميركي.
كذلك سوف تكون هناك ردود فعل لشركات أوروبية بدأت مفاوضات كبيرة مع إيران في شأن امدادها بالمعدات والطائرات مقابل موافقة طهران على الحد من النووي وانعكاس ذلك بشكل أوسع في الاسواق المالية والبنوك والشركات.
وكشف مؤخراً وزير المالية الفرنسي برونو لومير أن العمل يجري على ثلاثة مقترحات لتأكيد السيادة الأوروبية في مواجهة العقوبات الأميركية العابرة للحدود، وهي تعزيز اللائحة الأوروبية لعام 1996 التي تسمح بإدانة هذه العقوبات، بتضمينها قرارات الولايات المتحدة الأخيرة، ثم التفكير في كيفية مد أوروبا بالأدوات المالية، حتى تكون مستقلة عن الولايات المتحدة. أيضا يجري تداول أنباء عن دراسة تعامل أوروبا مع إيران باليورو بدلا من الدولار، خاصة فيما يتعلق بتعاملات النفط في محاولة لتخطي عقبة التعامل مع النظام المصرفي الأميركي الذي يهيمن على تعاملات الدولار حول العالم. مع العمل على إنشاء مكتب متخصص في متابعة نشاطات الشركات الأميركية في الخارج على غرار ما هو موجود في واشنطن بحيث يتبع الأوروبيون مبدأ المعاملة بالمثل.
من المؤكد أن أوروبا، بإصرارها على تحدي الولايات المتحدة وإنقاذ الاتفاق مع إيران، وضعت نفسها موضع اختبار صعب، وعليها أن تجتازه بنجاح وإلا ستخسر الكثير، ولكن،
عندما يتعلق الأمر بالاتفاق الإيراني، هناك نقطة ضعف أساسية تعرقل قدرة أوروبا على الالتزام، تتعلق بعيوب تصميم اليورو، والعقوبات الثانوية لا تستمد قوتها فقط من جاذبية السوق الأميركية، بل بسبب القوة التي تأتي من الدولار كونه عملة الاحتياط العالمية، حيث يشكل اليورو حاليا ما يقارب 20% من احتياطيات العملات الأجنبية على مستوى العالم، مقارنة بما يقارب 65% بالنسبة إلى الدولار. وهذا ما سيدفع القادة الأوروبيون إلى تخفيف حدة النزاع عن طريق استرضاء ترامب، والانتظار حتى تنتهي فترة رئاسته. وفي أغلب الظن ستصبح العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا أكثر فأكثر علاقة "مساكنة". سوف يتعاون الحلفاء القدامى على أساس المعاملات في المجالات ذات الاهتمام المشترك مثل مكافحة الإرهاب والتجارة. لكن الرؤية المشتركة للعالم التي ميزت هذه الشراكة منذ الحرب العالمية الثانية من الممكن جدا أنها انتهت...لكن البديل لم يتوضح بعد .