ارشيف من :مقالات

من واشنطن إلى الوزارة.. حكومة ’مدبولي’ تقسم اليمين

من واشنطن إلى الوزارة.. حكومة ’مدبولي’ تقسم اليمين

النظرة على الداخل المصري، في هذه اللحظات الفارقة، لا تُظهر فقط ثمة فوران عند القاع، يمور بالغضب، لكنها تنكشف أكثر على قمة تبدو في لحظة تحوّل لافت، مشهد من أزمة أنتج تغييرًا حكوميًا، يعول عليه النظام كثيرًا لاستعادة أرض كانت له منذ 4 أعوام فقط، ومعارضة في وضع الحصار، ومجتمع معصور "بالخنق" بين وزراء ومسؤولين في صندوق النقد الدولي.

الحكومة السابقة، برئاسة "رجل البترول" شريف إسماعيل، نجحت فقط في إغراق البلد بقروض تبتلع إيرادات الموازنة العامة، لترتفع الفوائد على الدين الداخلي والخارجي من نحو 193 مليار جنيه عام 2014/2015، إلى 541 مليار جنيه في 2018/2019، وإذا أضفنا أقساط الديون فيصل الرقم إلى 817 مليار جنيه، وهذه كلها فوارق خيالية، لم ينعكس حالها على المواطن، بل أن الوضع الاقتصادي سيئ، باعتراف تقارير لصندوق النقد الدولي، المشرف على عملية الإصلاح الاقتصادي الجارية، بعد الولوج إلى دائرة جهنمية من العجز، الذي يوجب الاستدانة لسداد القروض القديمة، ليكشف ويشير تقرير المراقب المالي، الذي يصدره صندوق النقد الدولي، إلى أن إجمالي احتياجات التمويل، أي سداد الديون ومواجهة عجز الموازنة، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر تبلغ 34,9% في العام الجاري 2018، وهي الأعلى على الإطلاق بين الدول المدينة.

الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في بداية فترته الرئاسية الثانية، والأخيرة دستوريًا، أثبت إنه يسمع أنين الشارع، المكتوي بعذابات الأسعار ونار تحميلهم "ذنب" إصلاح فساد لم يشاركوا فيه، ويعلم تبعات القرارات الاقتصادية، وقال قبل أيام، في إفطار الأسرة المصرية، إنه رفض الموافقة على قرار رفع أسعار المحروقات، قبل ساعات من شهر رمضان المبارك، في بادرة كانت لتصبح جيدة، بعد 4 سنوات من الانصياع الحكومي الكامل لرغبات مسؤولي الصندوق، لو تم إلغاء الزيادة المقررة، وصرف النظر عنها.

تلا رفض الرئيس إعلان إقالة الحكومة القديمة، واختيار تشكيل وزاري جديد، شهد تغييرات واسعة، طالت الحقائب السيادية، وكذا الوزارات الأهم للمواطن، وهي وزارات المجموعة الاقتصادية، التي صارت في السنوات الأخيرة كالعدو المتربص بالفقراء، وخاصم الاختيار الجديد قواعد راسخة، بأن يأتي الاختيار ـ غالبًا ـ من بنية الدولة، تلبية لغرض تسهيل انتقال الملفات، إذ أن دولاب العمل في الوزارة المصرية يتوقف تمامًا في غياب صاحب القرار، وهو الوزير، وبالتالي فإن الظروف لا تحتمل رفاهية وزير من خارج "جهاز الدولة"، أو على الأقل سبق له الاحتكاك بالجهاز الإداري.

بداية، تأتي أهمية وضرورة الاستقراء، من أن منصب الوزير في مصر رفيع ونافذ، منذ عهد نبي الله يوسف، والمنصب مرتبط في الذهنية المصرية ـ حكامًا ومحكومين ـ بالإجلال والإكبار، ودائرة اختصاص الوزير واسعة، ووجوده ضروري لاستمرار أعمال وزارته، إذ لم تفلح أي جهود سابقة لتعزيز لا مركزية القرار، وعدم ارتباطه بشخص، ثم أن الوزير في مصر "موظف"، وإن علا شأنه، وليس سياسيًا، كما يفترض.
وإجابة سؤال "خلفية الوزراء الجدد"، وحده، كفيل بكشف الطريقة التي ستسير بها الدولة المصرية، خلال سنواتها الأربع المقبلة، كما أن الخلفية تؤشر لصاحب القرار الحقيقي، هل هو الشعب، الذي غازله الرئيس، أم مؤسسات الهيمنة المالية العالمية.

"فلسفة التغيير" شهدت دهسًا للخط الفاصل بين الشركات متعددة الجنسيات والدولة، وجاء اختيار بعض الوزراء من شركات أميركية، أو مرتبطين في الدراسة والعمل بالولايات المتحدة، ليرسم حدودًا للمشتاقين لكرسي الوزير، السبيل أمامك أن تحصل على الرضا الكامل لإحدى المؤسسات الأميركية، ليصبح طريقك معبّدًا للترقي في المناصب القيادية بمصر.

الخطورة في انهيار الخط بين الدولة وشركات متعددة الجنسيات ـ وهي احتكارية بطبعها ـ هي إنها تؤسس لتحالف إجرامي بين الثروة والسلطة، وهذا مكمن خطر على مصالح الأغلبية، ثم إن "وحدة المصلحة" بين رجل الدولة وصاحب الشركة تؤدي في نهاية الأمر إلى أن يكون الشعب سلعة معروضة في السوق، ويفقد المجتمع بالتالي كل وسائل دفاعه أمام الناهبين الدوليين، ممن يخططون للسيطرة الكاملة على أسواق العالم، وخاصة لو كانت سوق نهمة استهلاكيًا، مثل السوق المصرية.

نقطة أخرى لافتة في اختيار الوزراء، لكنها عميقة المغزى، هي استبعاد وزير التنمية المحلية، اللواء أبو بكر الجندي، والذي مرّ على تعيينه في الوزارة أقل من 5 أشهر فقط، حيث صدر قرار "ترقيته" من منصبه القديم كرئيس للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، والذي وصل إليه كمكافأة خدمة ممتازة عن منصبه الأسبق كرئيس فرع العلاقات الأميركية بوزارة الدفاع المصرية، بلغة أخرى المسؤول عن التنسيق بين وزارتي الدفاع في البلدين، أي أن الاختيار كان سيئًا، وباعتراف النظام، وهنا يقفز للذهن مباشرة سؤال: "وماذا عن مسؤولياته السابقة، والتي لم يكن فيها تحت أضواء الإعلام"، وبالتالي فهل يؤمن عاقل أن صاحب الاختيار الفاشل هو نفسه سينجح اليوم.

ومن الاتصالات نبدأ، مع الوزير الجديد عمرو طلعت، حيث الوزارة التي تشتبك مع الأنظمة المعلوماتية للدولة كافة، وجاء الاختيار من شركة IBM، إحدى دلائل السيطرة الأميركية على عالم اليوم، شركة تقدم نفسها ـ كما غيرها ـ ككيان عالمي متعدد الجنسيات، أو "مالتي ناشونال"، فيما هي أداة أميركية للسيطرة على البنى التكنولوجية والمعلوماتية لدول العالم، وشارك الوزير الجديد، من موقعه السابق كمدير لمكتب IBM بالقاهرة، في تأسيس بنية تكنولوجية للخدمات الحكومية، منها الصحة والتعليم، والانتهاء من إعداد قائمة البيانات الحكومية الموحدة.

وفي الوزارة المسؤولة عن القطاع الحيوي، الزراعة، جاء الاختيار لها من شخصية مرتبطة بهيئة المعونة الأميركية "USAID"، الدكتور عز الدين أبو ستيت، الذي شغل لفترة منصب مندوب وزارة التعليم العالي لدى لجنة تمويل المشروعات الزراعية من فائض المعونة الأميركية، كتتويج لدراسته وعمله الأكاديمي بالولايات المتحدة، حيث حصل على شهادتي الماجيستير ثم الدكتوراه، من جامعات بأميركا، ثم أهلته منحة "فولبرايت" للتبادل الدراسي، بين مصر وأميركا، وهو تبادل بالقطع من اتجاه واحد، حيث وفرت فرص التدريس لأكثر من 6000 مصري، مقابل 1000 أميركي فقط، منذ إنشائها في 1947.

الهيئة الأميركية للمساعدات الدولية، "USAID" سيئة السمعة، التي كان وزير الزراعة الجديد يعمل تحت لافتتها، نشطت في مصر بالتوازي مع معاهدة "كامب ديفيد"، وما ارتبط بها من سعي أميركي لإخضاع القرار المصري، عن طريق هيئات ومنظمات تتغلغل في المجتمع المصري، وترتبط عضويًا بوزارات الدولة المختلفة، لتكون مصر تحت المجهر الأميركي، ومن ورائه الصهيوني بالطبع، فالمساعدات ليست مجانية، ولا بد لها من مقابل، وأول الضمانات ضمان المراقبة المستمرة لمدى الانخراط في خدمة المشروع الأميركي.

وزير الصناعة الجديد، عمرو نصار، القادم من شركة "غبور" لتجميع السيارات، وإنجازه الذي تروجه الآلة الإعلامية للنظام، هو نجاحه في توريد "أتوبيسات" إلى بريطانيا، رغم أن مصر ليست ضمن مصنعي السيارات، والموجود منها هو "تجميع" محلي، وفقط، فهل يراهن من اختاره على رغبة متأخرة لدى الرجل في مخاصمة حياته السابقة مثلًا، ربما.

ولم تتغير فلسفة الاختيار بوزارة المالية، التي يحكمها شبح يدعى يوسف بطرس غالي، الهارب عقب ثورة يناير 2011، فالوزير الجديد كان أحد الوجوه الجديدة في عهد "غالي"، وهو مسؤول عن تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، أما الأغرب فإنه كان رئيسًا لوحدة العدالة الاقتصادية، بجانب عمله السابق كنائب لوزير المالية لشؤون الخزانة العامة.

أما عن رئيس الوزراء الجديد، فإنه يمثل قمة هرم التزاوج بين "المؤسسات الدولية" وبيروقراطية مصر الخائبة، واتحاد من جهة أخرى بين عسكرية كامب ديفيد والخزينة العامة، وهي منظومة لا تمنح الموظف الترقيات وحق الوصول، إلا بممارسة تثبت كونه "طيعًأ لينًا" لرؤسائه، ليتحول الموظف شبه الإكاديمي، المتهم سابقًا بصرف أموال ومخصصات دون وجه حق، طبقًا لتقرير هيئة الرقابة الإدارية، حول وقائع استيلاء على المال العام، وكشفت التحقيقات الإدارية في القضية رقم 123 لعام 2011، إهدار ما قيمته 27 مليون جنيه في "مكافآت وبدلات جلسات لجان وهمية، لكن التحقيقات لم تصل إلى نهاية الطريق، ووصل "المتهم" إلى منصب الرجل الثاني على رأس السلطة التنفيذية.

كل ما هو منشور على صفحة ـ مدفوعة ومعدّة ـ في "ويكيبيديا"، لرئيس الوزراء الجديد، على إنه إنجازات عديدة، مجرد كلمات محشور بينها ألفاظ مضخمة، من عينة مخططات وإستراتيجي وقومي، بينما الناتج على الأرض، في النقاط الجلية، هي أن العشوائيات استمرت منذ كان الرجل نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتخطيط العمراني للتخطيط الإقليمي والبحوث الدراسات في 2007، ولم نشاهد أي خروج من الوادي، سوى في عهد المهندس حسب الله الكفراوي، وتطوير جانبي طريق القاهرة الإسكندرية يشهد على "سقوط" غير قابل للدحض، أو المناقشة.

لكن مصطفى مدبولي هو رجل اللحظة للنظام، هو الذي تمكن من إخضاع واحدة من وزارات مصر "المتخصصة جدًا" والغنية بكوادرها، ووضعها مثل التروس الضخمة لخدمة هيئة عسكرية، وضمن للخرينة السوداء، التي تقبع في الظلام خارج كل رقابة أو شفافية، مليارات من شركات المقاولات والعقود الحكومية، على حد سواء، وهو المطلوب في هذه الأيام، أن يتولى عدد محدود من أهل الثقة، كل مناحي الثروة والسلطة في مصر، وأن تصب في صناديقهم كل المصالح.

باختصار.. الحكومة الأخيرة مجرد إطار إداري بائس، يلخص في جلاء مستفز عمق الأزمة التي تعصف بكيان "مصر الوطن"، لا يوجد بين الوزراء من يجبرك على منحه ثقة مبدئية، كأن يكون قادم من مهمة ناجحة، أو يستند لإنجاز وطني ما، بالطبع ليست إنجازات فضائيات "علب الليل"، المدارة بواسطة أجهزة سيادية، وبالتالي فإن مصر عليها أن تعيد الكرّة مع الفشل والتراجع، إلى أن تترجم السلطة التطلعات الشعبية، التي بدأت بالخروج من مكامنها فعلا، كما حدث خلال أزمة المترو عقب رفع أسعار الخدمة، وهو خروج بلا ضابط هذه المرة، وبنذر بكارثة، يتضاءل جوارها مصير ليبيا المفتتة.

 

2018-06-16