ارشيف من :آراء وتحليلات

الأردن بعد قرابة القرن في ركاب الغرب.. دروس وعبر

الأردن بعد قرابة القرن في ركاب الغرب.. دروس وعبر

"لو كنت زعيما عربيا لن أوقع اتفاقا مع إسرائيل أبدا" ـ الصهيوني دافيد بن غوريون
     
دروس وعبر من وحي المعاناة الأردنية . ربما ستبدو عند البعض تحصيل حاصل، لكنها هي غير هذا في زمننا العربي الرديء الذي تلوث مزاجه وتعكر صفاء الفكر فيه بتلميع صورة الأستزلام للغرب، أو في احسن الأحوال نظرية: " بوسها وادعي عليه بالكسر"!!!. في ظل هذه الثقافة يبدو من المهم العودة إلى القواعد الأساس، وهي ليست نظرية ولا تجافي "قواعد اللعبة"، ولكنها الأكثر أماناً على المدى. التجربة الأردنية مثال ساطع.

"الوطن البديل"

كان من اللافت خلال الحراك الشعبي الذي شهده الأردن قبل اسابيع من تعمد استهداف شخص الملك، في كسرٍ لتقاليد مزمنة كانت تُحيّد الملك عن أي اشتباك في الداخل، فكيف وقد علت أصوات البعض تستهدف شخص الملكة بالذات بوصفها "الفاسدة والمبذرة "، والأتهام بنهب أموال الأردنين وإيداعها في بنوك في الخارج !.

ظاهرة غير  مسبوقة البتة، وهي خطوة مدروسة لكسر هيبة " العرش الهاشمي" ورأسه بالذات، "سيدنا"! كما درجت تسميته على ألسنة الأردنين . وصولاً لإسقاطه تحت عجلات قطار الفوضى، وهو شرط أساس في الحسابات الصهيونية لتمرير فكرة "الوطن البديل" لا سيما بوجود رئيس مثل ترامب . لسنا هنا لنجلّ النظام عما سبق ولحق به من نعوت، ولكن تجاربنا مع "الربيع العربي" والمترافقة مع مخططات سياسية لدول مقررة يدفعنا لنضع الأمر في نصابٍ أخر لا محل للصدف فيه ، لاسيما وأن المجتمعات القبلية كالأردنية تستوجب التدقيق في تداعيات الفوضى إذا ما دبت فيها، باعتبار أن الشخصية القبلية متجذرة بما يجعلها تتفوق على موضوعة الدولة الوطنية.

الرؤس الساخنة

كان ما سبق نذير بانفجار كبير لولا تقدم لندن الأكثر خبرة في قضايا المنطقة ناصحةً الجميع بالتريث ولا سيما امريكا والسعودية، إذ سيغدو إزالة العرش من عمان وما يستتبعه من فوضى ومن فراغ امني في مجتمع قبلي نسخة من سيناريو إزاحة صدام حسين، حيث ستجني ايران الحصاد، ولها مع سوريا حضورٌ مؤثرٌ على الساحة الفلسطينية عبر منظمات ملتزمة خطهما، لاسيما مع الشروع في المصالحة بين دمشق وحماس . من هنا جاء الحديث المسبق عن انسحاب ايران من الجنوب السوري، كيما يأخذ الأنفجار الأردني مداه، لكن حديث الرئيس بشار الأسد كان بمثابة الماء البارد على الرؤس الساخنة حيث لم يكتفي بالرد على المطالبين بانسحاب ايران بل بالاستعداد لمنحها قواعد في حال طلبت ذلك، "اسوة بما فعلنا مع روسيا" بحسب ما ورد في تصريحه !.

الدروس المستقاة

لعل ما سبق ذكره من اسقاط الحُرمات التي سيجت استقرار الأردن و"العرش" بالتواتر، يعيدنا إلى مراجعة تاريخ الأردن وهو ما زال قريب وفي متناول الذاكرة . لناخذ منه العبر وأهمها بتقديرنا ثلاث:  

اولاًـ ليس للغرب اصدقاء:
جاء تأسيس الكيان الأردني وعرشه وفق المقايس البريطانية نموذج (الألتزام) بسياساتها، ثم عقب الحرب العالمية الثانية سيراً في ركاب الولايات المتحدة التي انتقلت إليها (زعامة) الغرب . هذا الألتزام غدا شرطا مسبقا لسلامة حاكمه، وقد لُقٍّن الملك حسين وهو يافع هذا الدرس في أكاديمية "ساندهيرست" العسكرية الملكية في انكلترا . ثم في الدرس القاسي عند عزل والده الملك طلال بن عبدالله بعد سنة واحدة من توليه الحكم جراء اصطدامه مع البريطانيين اكثر من مرة، وجاء على خلفية كراهيته لـ"أسرائيل" وعدم مجارات (قواعد) سلامتها بحسب المواصفات السياسية البريطانية، فجاء عزله بترتيب بريطاني وبتواطئ اسرته بالذات بداعي عدم اهليته العقلية كما أُشيع عنه!، ليمضي بقية حياته معزولاً في مصحٍ في تركيا؛ وقد بقي امره محاطا بالضبابية حتى نُشِرت مذكراته عام 1965 لتكشف زيف ما أدعوه بحقه، وهي تلقى أقبالاً في الأردن لكنها توزع بالسر بطبيعة الحال!! . والخلاصة غدا الأردن ـ بموجب تصميمه البريطاني! ـ (سياجاً) حامياً لـ"إسرائيل" واحد ثوابت أمنها القومي.

كذلك شكل الأردن وفي سياق خدمة الغرب رأس الحربة في مواجهة الناصرية على مدى سنوات الخمسينيات والستينيات، هذه المواجهة التي كادت ان تبلغ حافة الحرب مع دولة الوحدة المصرية السورية ـ "الجمهورية العربية المتحدة"ـ ، وحيث شهدت المناطق الحدودية لجهة سوريا احتكاكات عسكرية . لكن ذروة الصراع مع الرئيس جمال عبد الناصر جاءت في دور الأردن الرئيسي في انقلاب 1961 والذي أدى إلى فصل عرى هذه الوحدة التي أقلقت الغرب والكيان الصهيوني في الوقت عينه . فبماذا كافأ الغرب الأردن وبالتحديد امريكا ؟!!.. بعد اقل من ست سنوات عما سبق كانت دبابات الجيش الصهيوني تجتاح القدس وباقي مدن الضفة الغربية في عملية كسر منخار للأردن وعاهله، ويبدو أن الملك لم يكن يتوقع ان يدفع هذا الثمن جراء الأزمة التي قامت ربيع عام 1967 بين مصر وسوريا من جهة وبين "اسرائيل" من جهة أخرى ، ما جعله يقول: " لقد خذلنا أصدقاؤنا". هذه العبارة مازلت اصداؤها تتردد بعد كل هذه السنين، وقد جاءت في خطابه من إذاعة عمان ينعي الضفة والهزيمة معاً بصوت متهدج  تخالطه الحسرة مع غصة دمعةٍ محبوسة.

ثانياً ـ وهم السلام مع الكيان الصهيوني:
اعتقد البعض وروج لمقولة ان السلام مع "اسرائيل" يوقف سفك الدماء ويجلب الرخاء، ويوسع هامش الأمان للكراسي والعروش بنيلها رضى وحماية امريكا والغرب من خلفها!. هذه السذاجة كان عرابها أنور السادات تحت مقولة 90% من اوراق الحل بيد امريكا. طبعاً لم يكن الملك حسين بحاجة لسماع هذه (النصيحة) فهو سلفاً تجمعه علاقات وطيدة مع واشنطن حتى خصصت له بالتحديد (أعطيات) سنوية. لكنه كان ينتظر الفرصة لإشهار علاقته مع "اسرائيل" وقد زارها باعترافة 53 مرة اجتمع فيها مع قادة الكيان وجمعته ببعضهم صداقات شخصية مثل "ابا ايبان" و"بنحاس سابير" وغيرهم لكن ابرزهم "العمة غولدا " كما كان ينادي "غولدا مائير"!! . وقد تبين ان كل ذلك جرى فيما "اسرائيل" تفكر بطريقة أخرى كشفها "موشي زاك" و"يوسف ياكووف" في كتاب "سياسات بون غوريون"  ـ وهو (الحاخام) السياسي لدولة الكيان الغاصب ـ بقوله الاردن“ دولة يجب ان تنتحر سياسيا او تفلس“. وقد جاء ذلك قبل وفاته في عام 1973.

عندما تسلل ياسر عرفات إلى أوسلو ليبرم اتفاقه المعروف مع "اسرائيل" وجدها الملك فرصة سانخة لفك الأرتباط مع الضفة فكانت "معاهدة وادي عربا " . ليتضح بعد ذلك ان المعاهدة شهدت حجماً لا يستهان به من التنازلات، لكنها في طي الكتمان أردنياً، هنالك امورا مخفية وسرية لا يعرف عنها حتى رؤساء وزراء الاردن!!، وتحدثت الفضائية الروسية عن 39 اتفاقية اردنية اسرائيلية سرية في طي الكتمان عقدها الملك الحسين، في حين انها معلنة في "اسرائيل" وباتت "مواد بحث ونقاش في صحف وكتب عبرية !!" وفي ظلال هذا الوضع الأردني (المسالم) حتى لا نقول المدجن تبحث "اسرائيل" الأن في نقض اتفاقها مع الأردن تنفيذا لتوصية بن غوريون: "الإنتحار السياسي باستيعاب الفلسطينين "وطناً بديلاً " او الأفلاس في حال لم يتم ذلك بنجاح"، هذا الإفلاس جرى التحضير له على قدم وساق.
 

ثالثاُ ـ الفساد الجندي المجهول:
الفساد حرب مفتوحة ولكن من غير دماء وسلاح إلا سلاح السوس ينخر شيئا فشيئا، وهذا حال معظم الدول العربية إن لم يكن كلها !. وهو بلا شك يمهد الأرضية، ويفتح الثغرات كيما تمر المؤامرات. نتذكر هنا المدخل لاحتلال مصر على يد بريطانيا وقد بدأ "بانتداب مالي” بعد ان عجزت عن سد ديونها!. والفساد الذي ضرب الأردن ـ كما بقية بلاد العرب ـ قد جاءت به نظرية الاستزلام او الولاء كمقياس وحيد في اختيار اركان الدولة بغض النظر عن الكفاءة والمناقبية، في حين ان تجارب "الربيع العربي" قد أثبتت أن أهلية إدارات الدولة هي جزء لا يتجزأء من أمن النظام ومستقبله، فضلاً عن البلد، وان الاستهانة بموضوعة الكفاءة والأهلية، سيؤل بالأمر إلى ما ينطبق عليه  المثل الشعبي: " يا مسترخص اللحم عند المرق تندم".

أمثولة

 كان رائجاً في الأوساط الأمريكية القول: أن المدخل إلى الأستقرار والأزدهار في الشرق الأوسط  يكون مع "سلام ابناء ابراهيم"، ذهبت مصر إلى أبعد الحدود، فكانت النتيجة المزيد من الفقر! ذهب الأردن إلى "وادي عربة" والنتيجة تراجع الدينار الأردني والتضخم وصولاً لأزمات لا تنقطع . بل ذهب الملك حسين ابعد وابعد بحسب ما نشره  "شمويل بار" في كتابه "فلسطين أم السلام" حيث قال: "أن الملك حسين ناقش الاسرائيليين عام 1960 في التخلي عن حق العودة ودمج الفلسطينيين في النسيج الاردني".
خلاصة الخلاصات أن الأردن "المعتدل" بمقاييس الغرب، وليس بمقاييسنا حتماً هو الان على كف عفريت وفي عداد الاحتمالات. أمثولة للجميع وفي مقدمتهم أصحاب الجلالة والسمو" من حكام العرب الخليجين!.
 

2018-06-18