ارشيف من :آراء وتحليلات

فشل الاستراتيجية الأميركية ونُذر الحرب التجارية الدولية

فشل الاستراتيجية الأميركية ونُذر الحرب التجارية الدولية

في نهاية الحرب العالمية الثانية برزت الولايات المتحدة الأميركية بوصفها أقوى وأغنى دولة في العالم، واحتلت مركز زعامة الكتلة الغربية والموالية للغرب، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بفضل ثلاثة عناصر أساسية هي:

ـ1ـ امتلاكها السلاح النووي وتوفير "المظلة النووية" للعالم الغربي بأسره بمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق.
ـ2ـ امتلاكها أقوى اقتصاد في العالم من حيث الحجم والتنوع والنوعية الانتاجية.
ـ3ـ اعتماد الدولار بوصفه العملة الدولية الرئيسية، وامتلاك الدولة الأميركية امتياز حق طباعة الدولار الورقي بدون تغطية ذهبية، "على كيفها" وبالكمية التي تراها مناسبة.

اعتماداً على هذه الميزات الاستثنائية، نشرت الولايات المتحدة أساطيلها وقواعدها العسكرية في جميع البحار والمحيطات والقارات لترسيخ نفوذها وهيمنتها على العالم، من دون أن تحسب أي حساب للتكاليف المالية الباهظة التي لم تكن في الواقع تكلفها أكثر من طباعة الدولارات الورقية البخسة الكلفة.

كما اعتمدت اقتصادياً مبدأ "الأجواء المفتوحة"، أي فتح أسواقها لبضائع جميع دول العالم مقابل فتح أسواق مختلف دول العالم للبضائع الأميركية، من دون أن تهتم بالميزان التجاري الخارجي لها، لأنه اذا كان الميزان التجاري هو لمصلحتها فتكون هي الرابحة، واذا كان لمصلحة الدولة المصدرة الى الأسواق الأميركية، فإن أميركا تكون أيضا هي الرابحة، لأنها ـ في حسابات طباعة العملة الورقية بدون تغطية ذهبية ـ تحصل فعليا على السلع الملموسة مقابل كمية من الورق المطبوع برسمة الدولار.

لكن الاستراتيجية الأميركية فشلت عسكرياً في الاحتفاظ بميزة البعد الجغرافي عن مخاطر الحرب وميزة التفرد بامتلاك السلاح النووي (هي والاتحاد السوفياتي فقط ووريثته روسيا) اذ إن دولا اخرى حازت السلاح النووي واستغنت عن "المظلة النووية الاميركية" (فرنسا، بريطانيا، باكستان والهند) كما ان تطوير الصواريخ الباليستية البعيدة المدى أفقد أميركا ميزة البعد عن الخطر. وأخيراً، وصل الأمر الى ان دولة صغيرة متمردة ومعادية للولايات المتحدة، ونعني بها كوريا الشمالية، وضعت اميركا "تحت السيطرة" بامتلاكها الصواريخ البعيدة المدى والقنابل النووية في وقت واحد. ومهما تلكأت أميركا الآن في التفاهم مع كوريا الشمالية، فإنها ـ اي اميركا ـ فقدت هيبتها مرة والى الابد وسترضخ في نهاية الامر لشروط كوريا الشمالية (وروسيا والصين الشعبية اللتين تدعمانها من وراء ومن أمام الستار).

أما من الجانب الاقتصادي، فإن السياسة الاقتصادية "العولمية" ـ القائمة على غرور وعنجهية الدولة العظمى التي تضرب عرض الحائط بأسس القوانين الاقتصادية ـ التي انتهجتها أميركا طوال أكثر من نصف قرن، بدأت أخيراً تنقلب الى ضدها، خصوصا بعد أن تلقت أميركا في العقدين الأخيرين ضربتين شديدتين هما:

أولا ـ اقدام المجموعة الاوروبية على طرح اليورو كعملة دولية جديدة تنافس الدولار.
ثانيا ـ بدأت روسيا "البوتينية" تطبق مع مختلف الدول الصديقة ولا سيما مع مجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا) ومجموعة شنغهاي (الصين، كازاخستان، قيرغيزستان، روسيا، طاجيكستان، أوزبكستان، الهند وباكستان) وايران وغيرها، مبدأ اعتماد العملة الوطنية لهذه الدول في التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والعقود فيما بينها. أي أن الدولار أصبح يستخدم كوحدة حسابية اسمية فقط، ولكن الحسابات والالتزامات والمدفوعات بين الدول المتعاقدة تتم بالعملة الوطنية لكل دولة.

أدى ذلك كله الى تقليص الحاجة الى الدولار، ومن ثم تقليص مساحة استخدامه في اجمالي الاقتصاد العالمي القائم، والى تقليص حاجة مختلف الدول الى تجميع "احتياطي الدولة" بالدولار واستغناء مختلف الدول عن الاحتفاظ بسندات الدولة الاميركية (طبعا ما عدا غالبية انظمة الدول العربية العميلة والذليلة التي تتابع سياسة الارتباط بالدولار ـ ومنها لبنان).

وقد أدى ذلك كله الى:

ـ1ـ احتشاء شرايين الدورة المالية في "المنطقة الدولارية ـ وقلبها اميركا ذاتها" بالعملة الورقية الدولارية التي انخفض سعر صرفها، وانخفضت قيمتها الشرائية اكثر بكثير من انخفاض سعر صرفها. وهذا ما أضعف قدرة الدولة الاميركية على طباعة كميات جديدة من العملة الورقية لان نتيجة ذلك ستكون بعد الان كارثية على الدولة الاميركية ذاتها.

ـتحولت اميركا من اكبر دولة دائنة في العالم، الى أكبر دولة مدينة الى درجة أنها تقف على عتبة الافلاس وعدم القدرة على دفع أجور موظفيها وجنودها (كما حدث في اواخر عهد الرئيس السابق اوباما).

ـ3ـ مع الفقدان التدريجي لميزة طباعة الدولار الورقي "على كيفها!" مال ميزان المدفوعات الاميركي ـ العالمي بالاتجاه المعاكس، وتحول هذا الميزان من ايجابي لمصلحة اميركا الى سلبي ضد صالحها.

ـ4ـ الطامة الكبرى كانت في تحول الميزان التجاري الخارجي لأميركا من الفائض الى العجز المتفاقم. وبعد أن كانت أميركا ـ بفضل سياسة "الاجواء المفتوحة" و"العصا النووية" خصوصا والعسكرية والمخابراتية عموما ـ تغرق جميع الأسواق ببضائعها وتفرضها بالقوة على جميع دول "العالم الحر"، أصبحت السلع والبضائع من جميع الدول التي تتعامل مع اميركا تغرق السوق الاميركية، على حساب الانتاج الاميركي الذي تقلص الى ما يتراوح بين 12 ـ 20% من الدخل الوطني القائم لاميركا. والباقي يأتي من اقتصاد الخدمات وارباح البنوك وألاعيب البورصات، أي أنه يتألف من ربح مالي اسمي لا يخلق فرص عمل فعلية للمواطنين الاميركيين كما هو الانتاج. وهذا ما يهدد بانفجار أميركا كالبالون المنفوخ أكثر مما يحتمل.

أمام شبح الكارثة الذي يحلق الآن فوق رأس أميركا، تستيقظ ادارة ترامب وتحاول بالقرارات التعسفية فرملة قطار الأزمة المتسارع نحو السقوط في الهاوية وتوجيهه في الاتجاه المعاكس.

في تصريح له الى جريدة Pravda – ru الالكترونية الروسية فإن باتريك جوزف بيوكانان Patrick Joseph  Buchanan (اعلامي وسياسي اميركي من اقصى يمين الحزب الجمهوري) يصف السياسة الاميركية الجديدة لترامب بأنها تقوم على "القومية" بدلا من "العولمة". ويقول إن حلفاء أميركا كانوا يستحلبونها ويتعاملون معها ككبش فداء يتناتشه الجميع ويطعنونه في ظهره ويضحكون عليه خلف ظهره.     

انطلاقا من هذه السياسة "القومية" يدعو ترامب دول الناتو وجميع "حلفاء" اميركا لأن يدفعوا نفقات أمنهم. كما قامت الادارة الاميركية بفرض ضريبة جمركية بنسبة 25% على استيراد الفولاذ و10% على استيراد الالومنيوم، وفرضت رسوما على السلع الصينية الموردة الى الولايات المتحدة بقيمة 60 مليار دولار، وذلك من طرف واحد من دون التشاور مع الشركاء التجاريين كما تقتضي قوانين منظمة التجارة الدولية. وقد ردت الصين والاتحاد الاوروبي وكندا على ذلك بأنها ستعمد الى اتخاذ اجراءات مماثلة وتفرض الضرائب الجمركية والرسوم على السلع والخدمات والرساميل الاميركية. ووصفت ادارة ترامب اقدام أي دولة على اجراءات جوابية بأنه يعتبر تهديداً للأمن القومي الاميركي، وانها ستتخذ اجراءات اضافية ضد الدولة المعنية. وتعليقا على ذلك قال وزير الخارجية الكندي خريستيو فريلاند: "انني اتوجه الى أصدقاء كندا الكثيرين في أميركا: هل تعتقدون فعلاً أن كندا، حليفتكم في الناتو، تمثل تهديدا لامن أميركا؟ هذا كله شيء محزن، ونحن مستاؤون".

هذه هي الآن الأوضاع المشحونة في الساحة التجارية العالمية، حيث يحاول كل من الفريق الاميركي وفريق الدول المواجهة لاميركا ان يلقي كل منهما كرة النار في مرمى الفريق الاخر. وهو ما يهدد باندلاع حرب تجارية دولية لا يستطيع أحد التنبؤ بما ستؤول اليه.
 

2018-06-19